دور المعرفة والثورة المعلوماتية في صنع السياسة الخارجية

إن المجتمعات والدول اليوم تعيش في عالم متغيراته أكثر من ثوابته، وقد تسارعت وتعددت بفعل ظاهرة العولمة، حيث لم تعد المجتمعات تعيش المتغيرات المحلية أو الإقليمية بل أيضا المتغيرات العالمية كمنطلق أساس لبلوغ كفاءة وفعالية الأداء، فضلاً عن ذلك أن الدولة تعيش في حالة مشاركة ومبادلة مع بيئتـها، فهي بذلك تشبه الكائن الحي الذي يستمد من البيئة مقومات البقاء والنمو بوصفها المصدر الأساس الذي يمدها بالموارد، والإمكانيات المختلفة في صورة  (طاقة، مواد، عناصر بشرية، معرفة، معلومات، بيانات)، كما تشتق أهدافها من النسق الأشمل- التقارب النظامي- وتتأثر مبادئها وقيمها بمبادئه وتتفق سياساتها مع سياساته كما تستمد منه المعايير وتسترشد بها في اختيار الأنشطة والأعمال التي تمارسها، كما تتحكم البيئة في سلوك الدولة وإدارتها من خلال قدرتها على قبول أو رفض ما تنتجه بكونها المتلقي النهائي لمخرجات ونتائج عملياتها. 
إن التحدي الأساس الذي تواجهه الدولة هو أن مكونات محيطها من تكنولوجيا ومعرفة وقيم واتجاهات ومنافسة مناخ الأعمال، كلها أضحت تتسم بالتعقيد والديناميكية، وعدم التيقن ومن ثم أصبح السعي إلى إحداث تغييرات متتالية وبشكل مترابط ومخطط في الشكل التنظيمي والمفاهيم وقيم وثقافة الدولة أو المنظومة الاجتماعية، ضرورة حتمية مما يجعل منها نظام مفتوح، وعامل مؤثر في تلك الظروف وليس مجرد مستجيب للتغيرات التي تطرأ عليها، إذ يتجلّى الدّور المتعاظم الذي أصبحت تقوم به الدولة في الوقت الحاضر، في قيادة عملية التنمية الشاملة، إذ بات من المحتّم عليها بوصفها الأداة الأساس التي تستخدمها الدولة في تنفيذ سياساتها ومخططاتها التنموية أن تعمل على تنمية الموارد المتاحة سيما البشريّة منها لكون العنصر البشري هو الفيصل بين التقدمّ والتخلف، ومقياس للنّجاح أو الفشل لأنّه المحور الأساس في العملية الإنتاجية الذي يحوّل العناصر الأخرى إلى قوة منتجة هائلة، وذلك لأنّ المشكلة الأساس التي تواجه المنظومة الاجتماعية ليست تزويدها بما تحتاج إليه من قـوى عاملة بقدر ما هي في تنمية وتطوير وترشيد واستغلال إمكانيات وقدرات القوى العاملة الحالية لتتمكن من النّهوض بأعبائها الوظيفية، وبالواجبات الموكّلة إليها لذلك فانه بالإمكان ملاحظة أن الكثير من المنظومات الاجتماعية تتعامل مع  خلق وتوفير المعرفة بوصفها دعامة من دعائم تقدم الأمم والنهوض بها، فهي المصدر الحقيقي للقوة في المجتمع، والسمة المميزة لعصرنا الحاضر  حتى اصبح يُطلق عليه بعصر المعرفة، حيث المعرفة والمعلوماتية أصبحت تشكل موردا اقتصاديا مهما ودعامة للتقدم في مختلف مجالات الحياة واذا كان لكل عصر ثروته فأن المعرفة والمعلوماتية ثروة هذا العصر،  وعندما تصبح المعرفة أساس ثروة الأمم فأن تطور الدول يقاس بمدى تطور قطاع المعرفة والمعلومات بشكل أساس والذي يساهم بدوره في رفد وتطوير القطاعات الأخرى، إذ أن عدم القدرة على مواكبة مظاهر التقدم في كل تحولاته، من المجتمع الصناعي إلى مجتمع المعرفة والمعلوماتية ناتج بشكل أساس عن عدم القدرة على اكتساب مفاتيح هذه التحولات وفي مقدمتها العلم والتكنولوجيا هذه النقلة النوعية أبرزت بوضوح دور المعرفة والمعلوماتية في حياة الأفراد والمجتمعات اليوم، إذ أصبح يعزى إليها النصيب الأكبر في التطور وتحقيق النجاح، بل إن الاقتصاد العالمي الجديد سُمي نسبة إليها باقتصاد المعرفة، وهو اقتصاد يتسم بالتنافس الشديد، المبني أساسا على المعارف والموجودات غير الملموسة، المنتجة، والمكتسبة، والمتراكمة لدى الأفراد والمنظمات والدول، وبذلك تجاوز العالم اليوم عصر المعلومات، منطلقا إلى عصر جديد، يمثل فيه الاستثمار في الموجودات الفكرية والمعرفية أهم المرتكزات التي يقوم عليها، إنه عصر المعرفة والمعلوماتية، الذي من أهم متطلباته، ألا تكتفي المنظومات الاجتماعية والدول بتوفير المعلومات فقط، بل يجب استعمال القدرات والمهارات التفكيرية مع هذه المعلومات، فقد ذهب اغلب الباحثين مع مطلع الألفية الجديدة باتجاه التأكيد على أهمية المعرفة والمعلوماتية، بوصفها مورداً لا تنحصر أهميته في تحقيق الفاعلية التنظيمية، كما كان ينظر إليها منذ أن عرفتها الإنسانية قبل ألاف من السنين فقط، بل بوصفها المورد الأساس لبقية الموارد الأخرى أيضاً، لدورها في توفير هذه الموارد من جهة، وفي كيفية توظيفها بما يحقق أهداف المنظومة الاجتماعية أو الدولة بغض النظر عن طبيعتها من جهة أخرى
كما يمكن القول أن مستقبل الأنظمة السياسية يتوقف اليوم على مدى الإدراك والاستثمار لمواردها وموجوداتها استثماراً أمثل لزيادة قدراتها ومحاولة التسلح بالمدخل المعرفي أو إدارة المعرفة التي تعد من أحدث المفاهيم الإدارية بعد إدراك أهمية المعرفة بوصفها وجوداً مهماً في تحقيق أهدافها واحدى الموارد المهمة والنادرة لأي فرد في المجتمع، وعدها السلاح الاستراتيجي لتحقيق النجاح والتميز، فمصدر الثروة الحقيقي في عالم اليوم ليس هو رأس المال وليس الأرض وإنما هي المعرفة والمعلوماتية فهي بوابة للولوج إلى النجاح الاستراتيجي، فضلا عن عد الفرد بوصفه حلقة التغيير الأولى في المجتمع الإنساني لتحقيق التقدم، فلا بد للمنظومات الاجتماعية من التعامل بكفاءة وفاعلية في عملية استثمارات الطاقات والقدرات المعرفية في عملية صنع السياسة العامة واتخاذ القرار الاستراتيجي حتى تتمكن من الحد من الإخفاقات وتسخير إمكانيات وطاقات المجتمع لتحقيق الازدهار والتقدم، فالنظام الدولي يشهد اليوم مرحلة متطورة من حيث تحول عصر الصناعة إلى عصر المعرفة والمعلوماتية وبذلك أدركت العديد من الدول والمنظومات الاجتماعية أهمية المورد المعرفي المخزون لدى الموارد البشرية العاملة لديها، الأمر الذي يدفعها إلى التفكير جديًا في كيفية الإفادة من المعرفة في خلق عناصر بشرية مؤهلة لتسخيرها لخدمة المجتمعات على نحو عام للأغراض العامة والخاصة، ومع ثورة المعرفة وتكنولوجيا المعلومات، وتزايد حدة المنافسة أخذت الدول تدرك تدريجياً أهمية المعرفة والمعلوماتية ودورها كنشاط يمكن أن يكون منظمًا، ومنهجيًا، من أجل التوصل إلى خدمات، وأساليب جديدة تحقق أداءً أفضل لها، كما أن صفة التعقيد والتشابك وزيادة حركة الفاعلين السياسيين ضمن النظام الدولي التي صاحبت السياسة الخارجية والعلاقات الدولية نتيجة التطور المتسارع في التقدم التكنلوجي سيما في مجال المعلومات، أدى إلى زيادة مسؤوليات صناع السياسة الخارجية الأمر الذي لم تعد معه المعلومات التي يتعامل معها صناع السياسة الخارجية تقتصر على المعلومات السياسية فقط بل امتدت لتشمل مختلف المجالات الاقتصادية والعسكرية والثقافية، لذلك فقد حظي حقل المعرفة والمعلوماتية باهتمام قطاعات المجتمع كافة لما تمثله من مورد أساس لوضع الخطط وتحقيق الأهداف،  وانطلاقا مما تقدم فقد حظي موضوع ( دور المعرفة والثورة المعلوماتية في صنع السياسة الخارجية: الولايات المتحدة الأمريكية أنموذجا) باهتمامنا البحثي نظرا لما تمتاز به المعرفة والمعلوماتية من مزايا تمكنها من القدرة على التعاطي مع مختلف المجالات سيما السياسية والعسكرية والاقتصادية، وان الخوض في هكذا دراسة وتطويرها يساعد ويساهم إلى حد ما في الوقوف على ركن أساس من أركان صنع السياسة الخارجية في عصرنا الحالي، إذ أن المضي بعملية صنع السياسة الخارجية دون الارتكاز على المعرفة والمعلوماتية الدقيقة والمناسبة أمراً يفقد صناعها ميزة الإفادة من متغير جوهري ومؤثر لضمان تحقيق الأهداف الموضوعة من جانب الدولة وربما يؤدي ذلك إلى التعرض لتقديرات خاطئة ومن ثم الوقوع في نتائج وقرارات غير موفقة، سيما في عالم أصبحت فيه الأحداث والمتغيرات السياسية والاقتصادية والعسكرية اكثر تداخلا وسرعة وتعقيداً وغموضا مما سبق، الأمر الذي يتطلب بدوره العمل تجاه تطوير منظومة المعرفة والمعلوماتية لتوفير الكم الأفضل من المعارف والمعلومات عن نوايا وتحركات وآثار سياسات الدول الصديقة قبل الدول المعادية من أجل إنجاح السياسات الخارجية المختصة بتحقيق الأهداف الوطنية سيما أثناء أزمات السياسة الخارجية.

المؤلف: د. مصطفى أحمد مصطفى

Share on facebook
Share on twitter
Share on linkedin
Share on whatsapp
Share on email

أحدث​ المقالات

الشلل الرقمي وتأثيره عالمياً

أصبحت التكنولوجيا الرقمية وما يرتبط بها من وسائل التواصل الاجتماعي والهواتف الذكية والمواقع الإلكترونية جزءاً هاماً من حياتنا اليومية ولا يمكن الاستغناء عنها، فجميعنا يتفقد

تفاصيل »

الذكاء الاصطناعي.. ثورة أم تهديد؟

يُعدُّ الذَّكاءُ الاصطناعيُّ، أداةً ثوريَّةً ستُحدِثُ تحوُّلًا هائلًا في كافَّةِ المجالاتِ، خاصَّةً الصناعةَ، فخلالِ السنواتِ القليلةِ المقبلةِ سيتغيَّرُ القطاعُ الصناعيُّ بشكلٍ جذريٍّ، وستحلُّ الربوتاتُ مكانَ

تفاصيل »