سورة الكهف: منهجيات في الإصلاح والهندسة الاجتماعية

كيف نصلح أوضاعنا؟ وما هي مناهج الإصلاح ووسائله وأفضل طرق تنفيذه؟ هل يمكن استيراد “الحلول” من الخارج؟ ومن زاوية أخرى: ما هو مضمون هذا “الإصلاح” وأسسه الموضوعية؟ هل الإصلاح مفهوم خلافي بالضرورة ومسألة وجهة نظر شخصية أو حزبية؟ 

في عصر كورونا وركوده الإقتصادي العميق وفي عصر الغموض والفوضى المتزايدة، يعتبر موضوع الإصلاح من منظور قرآني من القضايا الجوهرية والملحة ومتعددة التخصصات التي يتجدد فيها الاهتمام التأصيلي والتطبيقي. وهذا صحيح خصوصاً بعد انهيار الاشتراكية وأنين الرأسمالية وعدم استدامتها بسبب أزماتها المالية والأخلاقية والوبائية. 

وفي العالَم العربي والاسلامي، هنالك وعي فكري متزايد بأهمية تأصيل (أي وضع أصول) مضمون الإصلاح ومنهجه ومحركاته وسُننه الأساسية، لكن لا يزال هذا الوعي في مرحلة التبلور والتطوير، ومثال ذلك: كيفية تحقيق سُنة التغيير الاجتماعي بناء على تغيير ما بالأنفس.

وفي هذا السياق، لابد من التنويه الى كتاب “سورة الكهف: منهجيات في الإصلاح والتغيير” (2008) لمؤلفه د. صلاح الدين سلطان. ضم الكتاب (190 صفحة) أربع عشرة منهجية في الإصلاح، وإحدى أفكاره الرئيسية هي ليست فقط التمييز بين غايات الإصلاح ومقاصده الثابتة من ناحية، وبين وسائل الإصلاح ومناهجه من ناحية أخرى، بل أيضاً تنوع مناهج الإصلاح المعتبرة في سورة الكهف، بدءاً من الإعتزال المؤقت من العمل العام (قصة أصحاب الكهف)، مروراً بالحوار (قصتي الصاحبان وموسى والخضر) وانتهاءً بالفعل التشاركي (قصة ذي القرنين). 

وقد ميّز الكتاب أعلاه تبعاً لمنطوق الآية (لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجاً- المائدة 48) بين الشريعة وبين المنهج. فالشريعة تحدد الغايات (الأحكام والمقاصد التشريعية)، والمنهج هو طريق أو برنامج الوصول الى هذه الغايات. الغاية ثابتة لكن الوسيلة متغيرة وتتبع الظرف Contextual. هذا يشبه التمييز بين عقلانية الهدف وعقلانية الوسيلة في أدبيات نظرية التخطيط الغربية.

هذا المنهج المرن تبعاً للموازنة بين المنافع والمفاسد يماثل ما وصفه الفيلسوف الأشهر كارل بوبر بتحليل الموقف Situational Analysis كمكمل للمبادئ العليا والأصول الراسخة في الحوكمة والإصلاح الواردة في قطعيات القرآن والسنة النبوية (مثال: مبدأ الشورى وأهمية فقه الواقع).

والوسائل والأساليب في الغالب، كما يؤكد الشيخ مصطفى الزرقا (في كتابه المدخل الفقهي العام)، لم تحددها الشريعة الإسلامية بل تركتها مطلقة لكي يُختار منها في كل زمان ما هو أصلح. مثال ذلك كيفية تطبيق مبدأ الشورى الراسخ قرآنياً.

أما الدروس المستقاة من سورة الكهف وقصصها فتتطلب كتباً، لكن يمكن تلخيص أبرز النقاط كالتالي:

اولاً: تؤكد سورة الكهف على توفر مناهج متباينة لمسارات الإصلاح ووسائله لكن معظمها قائم على نوع من العقلانية التواصلية Communicative Rationality حيث تقوم الأطراف المعنية (الصاحبان وموسى والخضر وذو القرنين مع القوم) بالتواصل والحوار المكثف بغرض محاولة التوصل الى حل  في مواجهة “موقف الإصلاح”. ولربما هذا يشكل جزءاً هاماً من الحكمة التي تُجاور القرآن الكريم (ويعلمهم الكتاب والحكمة). هنا الإصلاح ليس فوقياً وإنما إقناعي وتواصلي وتشاركي.

كما تقدم سورة الكهف الدليل الشرعي البين بأن منظومة الاصلاح القرآني والهندسة الاجتماعية القرآنية ليستا أحكاماً ونصوصاً ومقاصد ثابتة فحسب، على أهميتها الإستراتيجية، بل هما أيضاً مناهج وحوكمة ووسائل بشرية ذكية تناسب الظرف ولا تتناقض مع الأصول. 

ثانياً: كما نوّه الكتاب أعلاه صائباً، هنالك دور أكيد للرحمة الربانية في تكميل العمل الإصلاحي الإنساني والعقلانية البشرية، إذ بدونها يصبح الإنسان كاليتيم دون عون، حتى ولو ادعى الغرور و”السيطرة” الى حين.

ثالثاً: على عكس الرأي السائد بحصر آيات الأحكام في نحو 500 آية على الأغلب، أي أقل من 10% من عدد آيات القرآن الكريم، فان القَصص القرآني (يشكل نحو ثلث القرآن) يضم أحكاماً تشريعية وواقعية هامة لكنها ضمنية وليست صريحة وتتطلب الاستنباط والتدبر.

وأخيراً، لابد من التأكيد بما تتميز به المقاربة القرآنية في الإصلاح في استنادها الى نظرية موضوعية للمعرفة الأخلاقية في أصولها وغاياتها، حيث هنالك قطعيات في مضمون الإصلاح ومحتواه متواجدة في (أم الكتاب) وليس مجرد تفضيلات بشرية متناقضة ومتحولة للأفراد والجماعات والأحزاب والنخب كما في الغرب، مما قد يعرضها لشبهة الفساد والإفساد بدلاً من الإصلاح (وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ تُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ قَالُواْ إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ، أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِن لاَّ يَشْعُرُونَ – البقرة: 11 -12).الرابط المختصر .

د. جمال الحمصي

السبيل_7مايو2021


Share on facebook
Share on twitter
Share on linkedin
Share on whatsapp
Share on email

أحدث​ المقالات

الشلل الرقمي وتأثيره عالمياً

أصبحت التكنولوجيا الرقمية وما يرتبط بها من وسائل التواصل الاجتماعي والهواتف الذكية والمواقع الإلكترونية جزءاً هاماً من حياتنا اليومية ولا يمكن الاستغناء عنها، فجميعنا يتفقد

تفاصيل »

الذكاء الاصطناعي.. ثورة أم تهديد؟

يُعدُّ الذَّكاءُ الاصطناعيُّ، أداةً ثوريَّةً ستُحدِثُ تحوُّلًا هائلًا في كافَّةِ المجالاتِ، خاصَّةً الصناعةَ، فخلالِ السنواتِ القليلةِ المقبلةِ سيتغيَّرُ القطاعُ الصناعيُّ بشكلٍ جذريٍّ، وستحلُّ الربوتاتُ مكانَ

تفاصيل »