” تطوير قوانين الخدمة المدنية والهياكل التنظيمية لمواكبة المتغيرات العصرية”

“تطوير قوانين الخدمة المدنية والهياكل التنظيمية لمواكبة المتغيرات العصرية”

على الرغم من الجاذبية البراقة للتكنولوجيا، لكن يبدو أن المجتمعات تغرق في كم هائل من التطبيقات الذكية، وأجهزة الأنظمة الإلكترونية، والمعرفة الهائلة غير المبوبة، فلم يعد بالضرورة أن يعني امتلاك تلك التكنولوجيا إحراز تقدم في جودة الخدمات الحكومية المقدمة للجمهور، فقد يكون العكس تمامًا ما قد يحصل. فإدارة التغيير تعلمنا أن عناصر مختلفة في العملية الإدارية قد تتأثر في حالة التغييرات غير المدروسة، أو تلك التي يتم فرضها من خارج المؤسسة أو المنظمة. ومهما بلغت لهفتنا لاقتناء تكنولوجيا حديثة، فإنه من المهم الانتباه إلى عنصرين مهمين سيؤثران ويتأثران بتلك التكنولوجيا، وهما المورد البشري والأطر القانونية لعمل المؤسسة. وأي استخدام واسع للتكنولوجيا بدون تأهيل مناسب للمستخدمين وبدون تعديل مناسب للإطار القانوني قد يكون عبثيًا وشكليًا، وقد يتحول إلى حِمل على كاهل المؤسسة بدل الاستفادة منه، وقد يكون سببًا لهجرة العقول بدلًا من جذبها. أو أن تلك التكنولوجيا الحديثة ستصطدم في نهاية المطاف بالقوانين غير المرنة والهياكل البيروقراطية مما يجعلها غير مجدية.

على دولنا العربية الاستفادة من هذه التكنولوجيا المتاحة، والتي أثبتت قدرتها على تسهيل الأعمال، وتقديم الكثير من الحلول، وذلك يحتم علينا نحن المهتمين بالشأن الإداري والقانوني وإعداد الهياكل التنظيمية واقعًا جديدًا، بل دائم التجديد، ويحتم علينا الابتكار في التعاطي مع أنظمة ربما كانت توصف بالثبات والاستقرار. فحكومات العالم دخلت في معترك التنافس، لتقديم خدمات أسرع وأكثر جودة للمستفيد، الذي بات يتطلع دائمًا إلى خدمات أكثر سهولة، مستخدمًا في ذلك أجهزة غاية في الذكاء يحملها دائمًا بين يديه.

وإذا كانت مهمة دوائر وإدارات تقنية المعلومات في دولنا هي اقتناء تكنولوجيا عالية الجودة، والعمل على تفعيلها، فعلى وزارات ودواوين الخدمة المدنية- وما يوازيها من مسميات تعنى بالشأن الوظيفي- أن تخلق ذلك الحراك اللازم، الذي يؤدي إلى تطوير قوانين الخدمة المدنية ولوائحها التنظيمية والهياكل التنظيمية جنبًا إلى جنب مع إعداد الموارد البشرية بالشكل المناسب. فمهمة هذه المؤسسات جسيمة ودورها حساس، لتكوين الأرضية المناسبة، لاستيعاب التغييرات المتوقعة والاستفادة منها إلى أقصى الحدود.

ولا أقصد هنا بإحداث تغييرات جوهرية على القوانين والهياكل التنظيمية أن يتم إصدار القرارات اللازمة لذلك فحسب، وإنما جعلها ذكية بقدر التكنولوجيا المحيطة، ومرنة بقدر التغييرات المحدقة؛ لأنه- على ما يبدو- فإن هذه التغييرات ستستمر في تحفيز المزيد ، مما يعني خلق حالة إدارية جديدة من عدم الثبات، أو أن يصبح التغيير هو الثابت الوحيد الذي تبنى عليه الأنظمة.

إن الخطوة الأولى الواجبة علينا، هي الالتزام بجعل الموظف هو حجر الزاوية في بناء المستقبل، وإعداده الإعداد المناسب ليكون هو القادر على مواكبة متطلبات العصر، ومواءمة التكنولوجيا مع أساليب العمل الإداري لمتطلبات المستفيدين. كما يجب علينا أيضًا أن نعمل على دعم تحديث دائم لقوانين الخدمة المدنية، ولوائحها التنظيمية، وكافة التشريعات، بناءً على المعطيات العصرية، وجعلها مستجيبة بشكل أسرع، وهو ما سيعزز بطبيعة الحال الاستفادة من التكنولوجيا بالشكل الذي ننشده، وجعل بيئة العمل الحكومي في مؤسساتنا جاذبة أكثر. إن إزاحة صفة الثبات عن قوانين الخدمة المدنية، خاصة في المجالات المتعلقة بتقديم الخدمات للمستفيدين، سيحررها من كونها عائقًا أمام التكنولوجيا، الأمر الذي يعني التحديث التلقائي المبني على المتغيرات، أو تيسير تطويرها من خلال قنوات سلسة ومختصرة. ولا يجب أن يعني التحديث والمرونة بأي حال من الأحوال أن يحدث على حساب الاستقرار الوظيفي، أو حتى الاستقرار القانوني، بل على العكس، فإن أي تغيير يجب أن يؤخذ فيه بعين الاعتبار مصلحة الموظف العمومي واستقراره، جنبًا إلى جنب مع مصلحة الإدارة في تقديم أجود الخدمات. ثم إن على هذه القوانين أيضًا أن تكفل عدم تحكم التكنولوجيا بمصائر الشأن الوظيفي، بل عليها أن تعكس رغبة الإدارة الصادقة في جعل التكنولوجيا أداة جذب في الوظيفة العامة، كما هي وسيلة لتقديم تلك الخدمات ذات الطابع العصري.

ولما كان العلم يذهب بعيدًا نحو التركيز إلى الابتكار، فقد استحدثنا في وزارة الخدمة المدنية بالسلطنة مؤخرًا دائرة بمسمى “دائرة الابتكار وإدارة التغيير” مهمتها الأساسية ما يمكن أن يكون الهواجس في هذا المقال. لذا فإنه من المناسب أن نُعَرِّج ولو بشيء من الاختصار، على هذه التجربة والغرض منها، فقد كان لدينا هاجس الاستفادة من العقول المبتكرة والمميزة في خلق ذلك الحراك الذي ننشد منه الاستفادة من المواهب، ومعرفتهم المتصلة بالتكنولوجيا وتطلعات المستفيدين في آن واحد، ولعلمنا أن المبدعين  موزعين في جميع تقسيمات الوزارة، فإن هذه الدائرة ستضطلع أولًا بمهمة اكتشاف هذه المواهب، من خلال قسم متخصص، وتعطيهم فرصة تقديم خدماتهم المهمة، وأفكارهم الخلاقة المناسبة لعصر المنافسة هذا، كما سيكون لهذه الدائرة الدور الأكبر في إدارة التغيير، أيضًا من خلال قسم متخصص بها لذلك. ستقوم هذه الدائرة بشكل أساسي على تحفيز الإبداع الفردي والمؤسسي، وخلق مجالات مبتكرة لإتاحة الفرصة لتقديم الأساليب الحديثة المطورة للعمل، وتبسيط الإجراءات وحل المشكلات وإثراء التقنيات والتكنولوجيا وسياسات العمل. كما سيكون لهذه الدائرة الدور في متابعة تلك الحلول وتقييم أثرها… ستعمل هذه الدائرة من خلال مجموعة من الاختصاصات المرنة التي تمت صياغتها لتساعد الوزارة على مواكبة المتغيرات العالمية المتسارعة.

لذا فإنه من المؤمل لهذه الدائرة أن تكون أداة الإدارة في مجابهة التحديات المعاصرة، والاستفادة من التغييرات والتطورات المتلاحقة، التي تم التطرق لها في هذا المقال، جنبًا إلى جنب مع باقي تقسيمات الوزارة التي باتت مستعدة أكثر لمتطلبات العصر.

أخيرًا، أود أن أنوه إلى ضرورة تعاون دولنا العربية، من خلال نقل المعرفة، وتبادل الخبرات والتجارب. فقد لعبت التكنولوجيا كما شاهدنا ونشاهد جميعًا دورًا أساسيًا في حياة الناس وفي حراكهم المجتمعي والسياسي، وأصبح من غير الممكن التراجع خطوة واحدة. بل إن الهاتف الذكي الذي بين يدي كل فرد يحدد بشكل مباشر، أو غير مباشر، الكثير الكثير من خياراته، واختياراته، فإذًا لم يعد التعامل مع هذه التكنولوجيا رفاهية، بل ضرورة ملحة لتفادي الصدام بين قوانيننا وهذه .

معالي الشيخ خالد بن عمر بن سعيد المرهون الموقر

وزير الخدمة المدنية– سلطنة عمان

Share on facebook
Share on twitter
Share on linkedin
Share on whatsapp
Share on email

أحدث​ المقالات

الشلل الرقمي وتأثيره عالمياً

أصبحت التكنولوجيا الرقمية وما يرتبط بها من وسائل التواصل الاجتماعي والهواتف الذكية والمواقع الإلكترونية جزءاً هاماً من حياتنا اليومية ولا يمكن الاستغناء عنها، فجميعنا يتفقد

تفاصيل »

الذكاء الاصطناعي.. ثورة أم تهديد؟

يُعدُّ الذَّكاءُ الاصطناعيُّ، أداةً ثوريَّةً ستُحدِثُ تحوُّلًا هائلًا في كافَّةِ المجالاتِ، خاصَّةً الصناعةَ، فخلالِ السنواتِ القليلةِ المقبلةِ سيتغيَّرُ القطاعُ الصناعيُّ بشكلٍ جذريٍّ، وستحلُّ الربوتاتُ مكانَ

تفاصيل »