إحداث تحول استراتيجي في الأعمال لتحقيق التنمية الإدارية

بحسب ما يمتلكه القطاع العام من ميزات تنافسية فهو بمثابة المحرك الرئيس للتنمية الإدارية في الدول العربية على وجه الخصوص، لذا اتجهت جهود كثير من تلك الدول إلى تحقيق التنمية الإدارية، من خلال تطوير الجهاز الإداري بالقطاع العام، أو إعادة هيكلته، والأخيرة أثبتت جدواها، لاسيما في ظل ترابط وتداخل الأعمال عالميًا، والتغيرات العالمية المتسارعة في شتى المجالات، والتي لم يعد معها التطوير منفردًا ذا جدوى، إنما إحداث تحول استراتيجي في الأعمال ينسجم مع منظومة الأعمال الحديثة، فالقطاع العام يجب أن يعمل على نحو مختلف ليحقق ما عجز عن تحقيقه في السابق، من خلال إعادة تنظيمه وهيكلته، ليكون قادرًا على تحقيق الاستراتيجيات وتبسيط إجراءات العمل وتحسين بيئة العمل، وضمان كفاءة الأداء والإنفاق.

وتلك الاستراتيجيات يجب أن تكون مبنية لتحقيق رؤية تستطيع تسخير الإمكانيات ومكامن القوة المتمثلة في الميزات النسبية لكل دولة، ومشتملة على سياسات وبرامج ذات فعالية عالية تتقلص فيها الإجراءات البيروقراطية الغير مجدية، وتتوافر فيها أداة فعالة للإنجاز، وتتوسع فيها الخدمات الإلكترونية، وتُعزز فيها الشفافية والمحاسبة.

فالرؤية تأتي أولًا، فهي المحرك والقائد للتنمية، والقادرة على تنظيم جميع السياسات والاستراتيجيات والبرامج والمشروعات التي يتم تبنيها لتحقيق تلك الرؤية، وخلق منظومة مترابطة ومتكاملة بين مختلف أجهزة القطاع العام.

إن إعادة هيكلة وتنظيم الجهاز الإداري بالقطاع العام بجميع قطاعاته مطلب ملح لإعادة هيكلة الأعمال الحكومية على نحو يحقق المرونة وسرعة الأداء، والقدرة على سرعة اتخاذ القرار المناسب، ومواكبة المتغيرات العالمية المستمرة والمتلاحقة، وهذا المطلب- في الحقيقة- يكاد يكون نمط عالميًا، حيث تتجه دول كثيرة للعمل على تحقيق مزيد من المرونة في أعمالها، من خلال مراجعة دقيقة للهياكل والإجراءات الحكومية وتوزيع المهمات والمسؤوليات والصلاحيات وتطويرها، بما يضمن الفصل الواضح بين عملية اتخاذ القرار وتنفيذه ومراقبة التنفيذ، وتسريع عملية اتخاذ القرار المناسب، والحد من الهدر المالي والإداري، واستحداث وحدات لديها القدرة على مراقبة تنفيذ ومتابعة الأداء وفقًا لأفضل الممارسات العالمية المتبعة.

إن التغيير الجوهري في الاستراتيجيات، أو المهام، أو وجود مؤشرات تدل على عدم القدرة على تحقيق الأهداف أو تحقيق أهداف دون المأمول، أو تزايد الأعباء والتكاليف الإدارية والمالية- من أبرز المؤشرات التي تستدعي إعادة الهيكلة.

وعلى الرغم من أهمية إعادة هيكلة وتنظيم القطاع العام، وكونها إحدى الأدوات الفعّالة في تحقيق التنمية الإدارية، لكن هناك جوانب أخرى يجب مراعاتها قبل الشروع في تلك العملية يأتي على رأسها مراجعة المهام الحالية لأجهزة القطاع العام ومواءمتها مع الاحتياجات المستقبلية اعتمادًا على دراسة دقيقة وواقعية ومقارنات معيارية وتحليل للبرامج والخطط المحققة لهذه الاحتياجات، ومراجعة القوانين للتأكد من قدرتها وملاءمتها للاحتياجات المستقبلية.

إن من أولويات إعادة هيكلة أجهزة القطاع العام تطبيق مفهوم “الحكومة الإلكترونية” من خلال توسيع نطاق الخدمات المقدمة إلكترونيًا وربطها لتعمل كمنظومة واحدة، سواء أكانت إدارية أم مالية، وتحسين جودة الخدمات الإلكترونية المتوافرة حاليًا عبر تيسير الإجراءات وتنويع قنوات التواصل وأدواته، والتوسع في استعمال التطبيقات الإلكترونية على مستوى الجهات الحكومية، مثل السحابة الإلكترونية الحكومية، ومنصة مشاركة البيانات، ونظام إدارة الموارد البشرية، وتعزيز حوكمة الخدمات الإلكترونية، وذلك على نحو منافس بحسب المؤشرات العالمية، ومنها مؤشر الأمم المتحدة للحكومة الإلكترونية، كما إنه من الأهمية أن تحقق إعادة الهيكلة رفع كفاءة الإنفاق العام، وتحقيق الكفاءة في استخدام الموارد، وأن يقترن الإنفاق بتحقيق أهداف محددة يمكن قياس فاعليتها بما يحفظ استدامة الموارد والأصول والموجودات.

وفي جميع الأحول لا بد من العمل على قياس أداء أجهزة القطاع العام وفقًا لعمل مؤسسي ومؤشرات قياس أداء تُعزز الشفافية والمساءلة.

وفي السياق ذاته، فإن الموارد البشرية وما يرتبط بها من جوانب ذات علاقة تُعد من أهم أدوات تحقيق التنمية الإدارية، لذا فقد تزايد الاهتمام بها عالميًا باعتبار أن العنصر البشري هو الركيزة الأساسية ورأس المال في تلك التنمية، والمتأمل لواقع الدول العربية يلحظ أنها تزخر بكفاءات بشرية ذات كفاءة وأداء متميز، وفي الجانب الآخر قد لا يتم توظيف كثير من تلك الكفاءات على نحو يحقق الاستفادة المُثلى منها، مما يحتم ضرورة العمل الجاد على تنمية تلك الموارد البشرية وإدارتها، من خلال تطبيق أفضل الممارسات العالمية المناسبة في هذا الشأن؛ لتمكين موظفي القطاع العام من امتلاك المقومات والمهارات اللازمة للمستقبل، والعمل على رفع إنتاجيتهم وكفاءتهم إلى مستويات متقدمة والاهتمام بإدارات الموارد البشرية في أجهزة القطاع العام، وتعزيز مبدأ الجدارة في الاختيار، وتأسيس قاعدة من المواهب والكفاءات البشرية ليكونوا قادة المستقبل، وتطبيق معايير إدارة الأداء والتأهيل المستمر، ووضع سياسات لتحديد قادة المستقبل وتمكينهم، وصنع بيئة محفّزة، تتساوى فيها الفرص ويُكافأ فيها المتميزون.

إن أمام الدول الممثلة في جامعة الدول العربية من خلال المنظمة العربية للتنمية الإدارية فرصًا حقيقية لتعمل على تحقيق التطلعات والآمال ومواجهة التحديات، والاستفادة من التجارب فيما بينها، من خلال العمل المشترك وتبادل الخبرات، وتدعيم قنوات التواصل فيما بينها من جهة، وفيما بين أجهزتها الإدارية بالقطاع العام والمواطنين والقطاع الخاص من جهة أخرى، والاستماع إلى جميع الآراء، وتشجيع أجهزتها الإدارية على تلبية احتياجات المواطنين، وتعزيز جودة الخدمات التي تقدمها، لتكون قادرة على تحقيق التطلعات، ووضع خطط اليوم للغد.

معالي الأستاذ/ سليمان بن عبدالله الحمدان- وزير الخدمة المدنية

المملكة العربية السعودية

Share on facebook
Share on twitter
Share on linkedin
Share on whatsapp
Share on email

أحدث​ المقالات

الشلل الرقمي وتأثيره عالمياً

أصبحت التكنولوجيا الرقمية وما يرتبط بها من وسائل التواصل الاجتماعي والهواتف الذكية والمواقع الإلكترونية جزءاً هاماً من حياتنا اليومية ولا يمكن الاستغناء عنها، فجميعنا يتفقد

تفاصيل »

الذكاء الاصطناعي.. ثورة أم تهديد؟

يُعدُّ الذَّكاءُ الاصطناعيُّ، أداةً ثوريَّةً ستُحدِثُ تحوُّلًا هائلًا في كافَّةِ المجالاتِ، خاصَّةً الصناعةَ، فخلالِ السنواتِ القليلةِ المقبلةِ سيتغيَّرُ القطاعُ الصناعيُّ بشكلٍ جذريٍّ، وستحلُّ الربوتاتُ مكانَ

تفاصيل »