زمن القيادة الريادية

تعاني منطقتُنا العربية أوضاعًا صعبة في مرحلة “ما بعد الربيع العربي” تتسم بمتغيرات بيئية مُتحدية ومختلفة عما سبقها، فالظروف السياسية باتت متشابكة، ومواجهة تداعياتها وانعكاساتها الاقتصادية لم يعد يناسبها تبني الأنماط القيادية التقليدية التي تركز على العملية والأنظمة وتقليل المخاطر، كنمط القائد “الأوتوقراطي المستبد” الذي يستحوذ على جميع سلطات اتخاذ القرار، ولا يتقبل مقترحات أو مبادرات المرؤوسين، فيتحول تدريجيًا- دون أن يدري- إلى ديكتاتور لا يثق إلا بنفسه، وهو أمر لم يعُد مقبولًا بعد التغيرات التي حدثت للشخصية العربية خلال هذه المرحلة وجعلتها أكثر تمردًا، ترفض من يحاول أن يمحي وجودها. أما القائد “الديمقراطي التشاركي” الذي يُشرِك أعضاء المجموعة معه في صنع القرار فيُعد نمطًا أفضل نسبيًا للتعامل مع سلوكيات الشخصية العربية الجديدة الجريئة التي تتقبل التعليمات فقط ممن يشعر بوجودها، ومن ثم يكسب ثقتها ويحفزها بفعالية.

وفى ظل الأوضاع الحالية لم يعد كافيًا مجرد اعتماد القائد على مشاركة مرؤوسيه في صنع القرار، بل أصبحت الحاجة مُلِحة لتوافر سمات أخرى لديه؛ حتى يتمكن من تحقيق أداء أفضل فى ظل المشكلات المعقدة، بسبب حِدة المنافسة وتراجع حجم الموارد المتاحة، وبيئة الأعمال الأكثر صرامة.

ولو تساءلنا عما يمكن أن يُحدِث اختلافًا واضحًا في الأداء التنظيمي؟ سننتبه إلى أهمية تغيير فلسفة القيادة لتتحول نحو إيجاد قادة بارزين يمتلكون نهجًا رياديًا يمكنهم من القيادة الفعالة للتعامل مع المواقف الصعبة، ويوفر لهم القدرة على اقتناص الفرص والاستفادة منها بنجاح، وهى سمات ترتبط عادة بسلوك رائد الأعمال الذي يدير شركة صغيرة.

فنحن نحتاج لجيل من قادة الأعمال الذين يقودوا عملية تطوير اقتصاداتنا العربية للأفضل، أمثال “ستيف جوبز” و”بيل جيتس” و”مارك زوكربيرج” و”ريتشارد برانسون”. ونعني بحديثنا هذا حاجة منظماتنا العربية للمدير القائد، لا المدير الموظف الذي يُعيَن بالأقدمية أو الواسطة، والذي قد لا تتوافر فيه أحيانًا الكفاءة أو الريادة، وهذه ثقافة إدارية عتيقة يجب تغييرها إذا أردنا أن نمتلك قادة مثل هؤلاء.

ويقصد بالقيادة الريادية “تنظيم مجموعة من الأفراد لتحقيق هدفٍ مشترك باستخدام السلوك الريادي، من خلال تقليل المخاطر والابتكار؛ للاستفادة من الفرص المتاحة وتحمل المسؤولية وإدارة التغيير لصالح المنظمة، وتستعين القيادة الريادية بالمهارات المرتبطة برواد الأعمال وتطبقها في البيئة المؤسسية الأكبر في إطار هيكل تنظيمي مَرِن يتيح له ولفريقه التحرك داخل منظومة العمل دون قيود لتحقيق النفع للمنظمة. وتندرج هذه المهارات تحت ثلاث مجموعات أساسية، أولها المهارات التكنولوجية التي تيسر التواصل مع العالم وتُمكن من الاحتكاك بثقافات مختلفة تُثري خبرات القائد وتكشف له الشاطئ الآخر من النهر، وهو ما يجعل عقله أكثر انفتاحًا، ويُشحِذ فكره بأفكار مُبتَكرة مربحة بشكل مستدام.

ثم تأتي مهارات إدارة الأعمال الحديثة التي تركز على الميزة التنافسية والقدرة على إدارة التغيير بمرونة لتحقيق الهدف بشكل ريادي، من خلال العمل على نشر ثقافة الريادة بين أعضاء الفريق، وتلعب هذه الثقافة دورًا فى دعم الاستثمار في رأس المال البشري، لأنه الأهم، فوجود قائد ريادي مع فريق تقليدي قد يعيق خُططه نتيجة فوارق الطموحات والقدرات، بل والأهداف بينه وبينهم. ومن المهارات الإدارية أيضًا تحويل الأحلام والأهداف الكبيرة إلى مهام عملية صغيرة يوصل إنجازها  في النهاية لتحقيق الهدف الكبير، لكن ميزة هذه النجاحات الجزئية الصغيرة أنها تبث الأمل والحماس في الفريق وتدفعه نحو تحقيق النجاح الأكبر.

وتركز المجموعة الثالثة على مهارات الشخصية الريادية التي تتميز بصفات عديدة، من أهمها أن صاحب هذه الشخصية يبحث عن الفرص، معتمدًا على الإبداع والابتكار في جميع معاملاته، بما فيها مواجهة المشكلات بنجاح دون خوف من المخاطرة، أو وقوفًا عند المعوقات وقلة الموارد، مع درجة عالية من المرونة، وقدرة مستمرة على التعلم الذاتي وتنمية القدرات، للتكيف مع بيئات يكتنفها الغموض وتتسم بالتغيير. ويتحمل القائد الريادي مسئولية أفعاله التي ينبغي أن تكون مبادِرة، وليست تفاعل أو رد فعل لحل المشكلات فقط.

وحتى يحقق هذا المقال غايته، نقدم مسارًا يرشد القائد فى عملية التحول نحو نمط القيادة الريادية، إذا كان مؤمنًا بأهميتها صابرًا على متطلباتها وتبعاتها حتى تؤتي ثمارها. وتكون البداية بـ “اعرف نفسك“، ووصِّف نمطَك القيادي الفعلي كما يراه الآخرون، فقد تكون رائدًا- دون أن تدري- ولا تحتاج لتحوُّل. ويساعدك في ذلك مؤشرات عديدة، كمستوى إنجازاتك، ورضاء أعضاء فريقك عنك. وأيما كان نمطُك القيادي، ابتعد عن “الإنكار” ومحاولة التبرير أو الهجوم، فالمنكِرون لا يتقدمون لأنهم يتوهمون أنهم يسيرون في الطريق الصحيح، بينما من حولهم يرون العكس. إذا نجحت في تخطي هذه المعضلة باقتناعك بوجود نمط أفضل، فإن إرادتك ستكون كافية لتبني الإجراءات اللازمة لعملية التحول بيسر.

ويحدد تحليل نمطك القيادي نقاط ضعفك التي تعيق تبني النمط الريادي، لتبتعد عنها أو تتجاهلها أو تطورها، وكذلك تتحدد نقاط قوتك التى ستحافظ عليها مع إضافة المهارات والسلوكيات الناقصة لك ولأعضاء فريقك حتى تصل لنموذج ريادي فريد خاص بك، لأنه لا توجد  صيغة ثابتة للقيادة الريادية، بل إن الإبداع في هذا المجال يخلق نماذج مختلفة ناجحة. وتواجَه عملية التحول بصعوبة تغيير السلوك الفردي أو الجماعي، لأنه ليس بالأمر الهين، إلا إذا توافرت الإرادة ليصبح سلوكًا معتادًا.

ويستلزم تبني نهج القيادة الريادية وضع خُطة تتضمن وسائل وأساليب توفر مناخًا إبداعيًا استشاريًا تشاركيًا مُحَفِزًا ومُنجِزًا، من خلال منح وقت كافِ لك وللمرؤوسين للتفكير والمناقشة والاستشارة لتقديم حلول مرنة، ويفيد فى ذلك الاستعانة بأساليب للتفكير الإبداعي، كتعصيف الذهن والقبعات الست، مع عقد مسابقات، ومنح حوافز وفرص للتنمية الذاتية وغيرها، مما يخلق مناخًا تنظيميًا يتناسب مع زمن القيادة الريادية.شاركها

الأستاذة الدكتورة/ هالة محمد لبيب عنبه

أستاذ بكلية التجارة جامعة القاهرة- قسم إدارة الأعمال

Share on facebook
Share on twitter
Share on linkedin
Share on whatsapp
Share on email

أحدث​ المقالات

الشلل الرقمي وتأثيره عالمياً

أصبحت التكنولوجيا الرقمية وما يرتبط بها من وسائل التواصل الاجتماعي والهواتف الذكية والمواقع الإلكترونية جزءاً هاماً من حياتنا اليومية ولا يمكن الاستغناء عنها، فجميعنا يتفقد

تفاصيل »

الذكاء الاصطناعي.. ثورة أم تهديد؟

يُعدُّ الذَّكاءُ الاصطناعيُّ، أداةً ثوريَّةً ستُحدِثُ تحوُّلًا هائلًا في كافَّةِ المجالاتِ، خاصَّةً الصناعةَ، فخلالِ السنواتِ القليلةِ المقبلةِ سيتغيَّرُ القطاعُ الصناعيُّ بشكلٍ جذريٍّ، وستحلُّ الربوتاتُ مكانَ

تفاصيل »