التنمية المستدامة للإدارة وحوكمة الرفض الصامت

عرَّفت مفوضية الأمم المتحدة للبيئة والتنمية- عام 1987- التنمية المستدامة بأنها: التنمية التي تفي باحتياجات الوقت الحاضر دون المساس بقدرة الأجيال المقبلة على تلبية احتياجاتها الخاصة. وعادة: ما يمكن تحقيقه من خلال تحسين التقنية وبناء القدرات والتدريب.

أما الحوكمة فيقصد بها: تطبيق مبادئ الحكم الرشيد، وتحسين الأداء المؤسسي، والتماشي مع متطلبات التنمية والتطور.

في مجال الإدارة تتطلب التنمية المستدامة استمرارية العمل، مع تعاقب الأشخاص والسياسات والزمن على النهج المتبع نفسه، مع التطوير اللازم لتحقيق الهدف الذي تسعى إليه المؤسسة، والتركيز على التوازن بين احتساب الاحتياجات والحاجة إلى استخدام التقنية التي تتطلب تبني معايير الابتكار (الإبداع + التنفيذ).

وتعد التنمية المستدامة في الإدارة واقعًا عمليًا يبحث في تحقيق أهداف وليس وضع استراتيجيات ، لذلك فإن أساسها هو وضع مؤشرات قابلة للقياس يمكن من خلالها تقييم المنجز من الأعمال، والتخفيف من أي آثار سلبية تحدث من خلال المؤسسة.

ومع وجود التطور التقني الذي يساعد في تطبيق استراتيجيات الإدارة الحديثة- كاستراتيجية الإدارة الإلكترونية والحكومة الرقمية- يمكن للتنمية الإدارية أن تصل إلى أفضل مستوى إن وجدت المقومات الإيجابية والرغبة في التنفيذ. ونجزم بأن غالبية الدول العربية لديها الاستراتيجيات التي تؤهلها لتكوين نظام إداري فعال وتنمية الإدارة بالشكل المطلوب، ولكن تطبيق الكثير منها يتوقف على عدة اعتبارات، كعدم وجود تشريع يؤطر عملية تنفيذها، ويضع العقوبات اللازمة لمن يقف في مواجهة هذا التنفيذ، وتوفير الكوادر البشرية المؤهلة ، وتطوير آليات العمل داخل الإدارات. والأهم هو تكوين قواعد البيانات وأدلة الإجراءات اللازمة لكل مؤسسة، والتي لا يمكن العمل عليها من خلال هياكل تنظيمية غير متطورة وغير فاعلة.

في طريق التنمية الإدارية المستدامة، فإن مكتب وزير الدولة لشؤون هيكلة المؤسسات بدولة ليبيا قام بوضع مشروعات هيكلة عامة للبنية التحتية للدولة ، والمشروعات الصغرى والمتوسطة، وكذلك هيكلة عامة للنظام الوطني للمعلومات، وفي طريقه للانتهاء من وضع دليل الإجراءات المعتمد لتصميم وتطوير الهياكل التنظيمية ومشروع قانون العالم الافتراضي.

وقد تم استحداث عدد من التقسيمات التنظيمية التي تهتم بما تحدثت عنه مبادئ التنمية المستدامة، مثالها مكتب دعم وتمكين المرأة، ومكتب دعم وتمكين ذوي الإعاقة الذي صدر بشأنه تعميم عام من مجلس الوزراء، على أن يُنشأ في كل وزارة من وزارات الدولة.  وضمن إطار التقسيمات النمطية، وما يساعد على استدامة الإدارة ومواكبة التطور، وتفعيل مبادئ الحوكمة- تمت إضافة مكتب التخطيط الاستراتيجي والتميز المؤسسي، وتطوير اختصاصات مكتب الدعم التقني.

مثل هذا التطور يأخذنا إلى طريق الإصلاح الإداري، وبشكل خاص حول موضوعنا “الرفض الصامت” الذي يتوارى خلفه الكثير ممن لديهم السلطات الإدارية التي تخولهم التحكم في الكثير من أمور الإدارة بالمؤسسة، سواء أكان التعامل مع الموظفين أو مع المواطنين أو المؤسسات الأخرى.

ويأخذنا الرفض الصامت إلى نوع من أنواع الفساد  الإداري، ألا وهو المعاملة الصامتة، أو عدم الرد الذي يرجع إلى أحد أمرين : إما الإهمال، أو أخذه كوسيلة للتحكم أو الاستغلال. وفي الحالتين يحتاج الأمر إلى علاج فيعتبر الإفصاح والرد أو الشفافية جزءًا لا يتجزأ من الاستدامة المؤسسية، أما عدم الرد فيدخل في إطار “الشخصنة الإدارية” التي تبعدنا عن التطوير، وهذا يقترب كثيرًا من مفهوم القرار السلبي، وهو القرار الذي تلتزم الإدارة فيه بالصمت إزاء موقف معين، ولا تظهر إرادتها خارجيًا بشكل يفهم منه قصدها أو رغبتها، وبالتالي لن يوجد أي أثر قانوني يلزمها لتنفيذه، فالآليات التي تتبعها الدول لمنع هذا الفساد الإداري طويلة ومعقدة . لذا لجأت بعض الدول إلى علاج هذا الأمر بإصدار قرارات خاصة بتبسيط الإجراءات، مما قد يؤدي إلى التخفيف نوعًا من حدة هذا الفعل .

في ليبيا هناك القرار رقم (1) لسنة 1990م بشأن تبسيط الإجراءات، يهدف إلى تحسين وتطوير معدلات الأداء، وتوحيد معاملة المواطنين، واحترام وقتهم، وكذلك توحيد مفاهيم وطرق العمل في الجهاز الإداري العام، وتحسين دورة المعلومات في الإدارة العامة. لذلك فإن استدامة العمل على هذا القرار من الممكن أن تتوقف بناءً على “الرفض الصامت” الذي يعتاد من خلاله المتعاملون مع المؤسسات على عدم وجوده ويصبح في طي النسيان؛ لذا يتوجب الالتزام باستكمال أدلة الإجراءات الخاصة بكل مؤسسة حتى يمكن علاج هذا الأمر، كذلك يحتاج الأمر إلى قياس الوقت الذي يتم فيه الرد على المواطن، ووجوب تغيير نظرة الموظف إلى أنه لا يمنح هبة للمواطن، ولكنه يعمل على تنفيذ التزاماته تجاهه.

وهناك كذلك القانون رقم (4) لسنة 1990م بشأن النظام الوطني للمعلومات والتوثيق الذي لم يتم تطبيقه بالشكل المطلوب لاستخدام لغة الصمت ، وغير ذلك من التشريعات والإجراءات التي يجب أن تلتزم بها الدول.

إن حوكمة الرفض الصامت يمكن أن تتوافر عبر الشفافية والوضوح والتوثيق، وهذا يحدث عن طريق رفع التقارير والمتابعة وإتاحة المعلومة بشكل يسهل الوصول إليه؛ لذلك يجب أن تكون المعلومة موثقة بشكل يجعلها قابلة للفحص وخاضعة لمعايير الجودة.

من هنا نجد أن للاستدامة المؤسسية عدة أطر أهمها : الموارد البشرية، والتقنية، والمتابعة، والحوكمة.

ومن خلال النظر إلى أهداف التنمية المستدامة 2030- وبشكل خاص ما يخص الإدارة (الأهداف 16،8،7،6)- نجد أن التحول- ومن ثم التطور- يحتاج إلى دعم إنشاء هياكل ومؤسسات متطورة للاتجاه نحو الإدارة الحديثة، وذلك عن طريق المؤسسات المتخصصة بالهيكلة والإصلاح الإداري في جميع أنحاء بلادنا العربية.

إن تعاون بلادنا العربية في هذه المجالات بمؤازرة ومساندة المنظمة العربية للتنمية الإدارية يفتح آفاقًا كبيرة لتبادل وجهات النظر حول طرق الإصلاح الإداري والتميز المؤسسي؛ لنصل بها إلى الرفاهية والعدالة.

معالي الدكتورة/ إيمان محمد بن يونس.  

وزير الدولة لشؤون هيكلة المؤسسات- دولة ليبيا (حكومة الوفاق الوطني).

Share on facebook
Share on twitter
Share on linkedin
Share on whatsapp
Share on email

أحدث​ المقالات

الشلل الرقمي وتأثيره عالمياً

أصبحت التكنولوجيا الرقمية وما يرتبط بها من وسائل التواصل الاجتماعي والهواتف الذكية والمواقع الإلكترونية جزءاً هاماً من حياتنا اليومية ولا يمكن الاستغناء عنها، فجميعنا يتفقد

تفاصيل »

الذكاء الاصطناعي.. ثورة أم تهديد؟

يُعدُّ الذَّكاءُ الاصطناعيُّ، أداةً ثوريَّةً ستُحدِثُ تحوُّلًا هائلًا في كافَّةِ المجالاتِ، خاصَّةً الصناعةَ، فخلالِ السنواتِ القليلةِ المقبلةِ سيتغيَّرُ القطاعُ الصناعيُّ بشكلٍ جذريٍّ، وستحلُّ الربوتاتُ مكانَ

تفاصيل »