ثورة المنصات الرقمية

يتفوق نموذج المنصات الرقمية على النموذج التقليدي للمنتجات والخدمات، ولذلك انتقلت شركة أبل من خلال هذا النموذج الرقمي من سلسلة القيمة الخطية Linear Value Chain إلى نظام المنصة الثلاثي Triangular Platform System. تتمركز فكرة المنصة الرقمية في نمو التأثير الشبكي Network Effect المباشر من خلال زيادة عدد العملاء أو مستخدمي المنتج إلى زيادة القيمة أو المنفعة للنوع نفسه من المستخدمين، أو التأثير الشبكي غير المباشر من خلال زيادة عدد العملاء إلى زيادة القيمة للعملاء على الجانب الآخر. على سبيل المثال، كلما زاد عدد حاملي بطاقات فيزا زادت جاذبية المتاجر والمحال التجارية لقبول تلك البطاقة. ويجب أن يكون التأثير إيجابيا وليس سلبيا كما ظهر في منصة ماي سبيس Myspace الرقمية من جراء عدم حوكمة المنصة فعليا. لو نظرنا في عصر الإنترنت الحالي تعمل الشركات على تسخير وفورات الحجم Economies of Scale من جانب المستهلك لتقليل التكلفة عليه. على سبيل المثال، كسب نظام التشغيل Windows في صراع البرمجيات Office Desktop لأن مزيدا من المطورين أنتجوا إلى المنصة التي جذبت بعد ذلك مزيدا من المستخدمين ثم جذبت مزيدا من المطورين للدخول في المنصة وهكذا دواليك.
لو ألقينا نظرة على ما يحدث في أنحاء العالم، لرأينا مخططا يوضح شركات المنصات الأكثر قيمة التي حققت رأسمال سوقيا يزيد على مليار دولار. ففي عام 2008، تصدرت شركات بتروشينا وإكسون وجي إي وشينا موبايل وICBC كقيم سوقية عظيمة، لكن ما الذي حدث عام 2018؟ سيطرت شركات التقنية على السوق العالمية بقوة هائلة مثل شركات أمازون وأبل وفيسبوك وجوجل ومايكروسوفت، بل إن أقوى سبع من عشر شركات في العالم في القيمة السوقية حاليا تمتلك منصة رقمية وتتصارع فيما بينها في قوة التأثير الشبكي. وتهيمن على هذا المشهد العالمي منطقتان هما: أمريكا الشمالية وشرق آسيا. وحسب دراسة أجراها حميد رضا حسيني وهولجير شميدت من جامعة دارمشتات للتقنية في شهر يونيو الماضي، فإن قيمة أعلى 100 شركة ذات منصة رقمية في العالم تقدر بأكثر من 10.8 تريليون دولار. 68 في المائة منها موجودة في أمريكا الشمالية و27 في المائة في شرق آسيا، بينما تحتل أوروبا نسبة ضئيلة تقدر بـ 3 في المائة، وكذلك إفريقيا التي تحتل 2 في المائة. والملاحظ أن أوروبا متخلفة كثيرا عن الركب العالمي رغم أن الحجم الإجمالي لاقتصادها يمكن مقارنته باقتصاد الولايات المتحدة. وكذلك إفريقيا وأمريكا اللاتينية ودول الشرق الأوسط متخلفة عن الركب الرقمي مقارنة بحجم المنصات الأمريكية والصينية. يتعلق الأمر بالتأثير الشبكي في المستخدمين الذين ينضمون إلى المنصة الرقمية وإيجاد مزيد من القيم. لذلك تملك الولايات المتحدة وأمريكا الشمالية عموما لغة مشتركة وسوقا مشتركة ومن الأسهل على الشركات طرح معيار واحد للمنطقة بأكملها. وبالمثل في شرق آسيا، إذا نظرنا إلى شركات سامسونج وعلي بابا وتينسنت، فهم قادرون على الاستفادة من التأثير الشبكي للمستخدمين القادمين إلى المنصة. ورغم أن اقتصاد الاتحاد الأوروبي ضخم، إلا أنه مجزأ عبر ثقافات ولغات مختلفة، وكذلك الحال في إفريقيا وأمريكا اللاتينية ودول الشرق الأوسط.
يقول البروفيسور جيفري باركر في كتابه “ثورة المنصات”: “يجب أن يتحول اهتمام الشركات من الإدارة الداخلية لموظفيها والرقابة الصارمة على سلاسل التوريد الخاصة بهم إلى البحث خارج الشركة، حيث يتم إنشاء كثير من القيم بين المستخدمين والعملاء أنفسهم، والذين ليسوا من الشركة أو المنظمة نفسها، وهذا يحدث تأثيرا شبكيا عظيما في المنصة. لكن لا يمكن توسيع نطاق تأثير المنصة في الداخل بالسهولة نفسها التي يمكن بها في الخارج”. بمجرد إنشاء منصة رقمية على نطاق واسع في صناعة معينة، يكون من الصعب للغاية إطلاق منافس مباشر بخدمة مماثلة، نتيجة لقوة تأثير الشبكة، حيث يواجه المتنافسون الجدد عائقا هائلا للدخول في منصة ذات تأثير شبكي عال. على سبيل المثال، لا يتمثل التهديد الحقيقي لخدمة “جوجل” في قيام شركة أخرى بتطوير محرك بحث مشابه (على سبيل المثال خدمة Bing)، لكن التهديد من جذب المستخدمين وأصحاب الإعلانات إلى أنواع أخرى من أدوات البحث، مثل البحث الصوتي أو البحث عن المنتج في “أمازون”. وقد يؤدي إلى احتكار الصناعة والاستحواذ عليها، حيث إن عددا قليلا من اللاعبين المهيمنين الذين يمتلكون الأغلبية العظمى من السوق، مثل بطاقات الائتمان ومحركات البحث والتسوق. لذلك تعرض قادة “أمازون” و”أبل” و”فيسبوك” و”جوجل” لانتقادات سياسية عنيفة في شهر يوليو الماضي، حيث واجهت اللجنة العليا لمكافحة الاحتكار في مجلس النواب الرؤساء التنفيذيين الأربعة لممارسة قوتهم السوقية لإبعاد المنافسين وجمع البيانات والعملاء والأرباح العالية. أما شركة مايكروسوفت فقد واجهت قضايا احتكار متعددة ولم تسلم منها.
تمثل المنصات الرقمية أداة مهمة في إيجاد وظائف وتعزيز الاقتصاد الكلي ونقلة تقنية وعنصرا تنافسيا مهما ولا يمكن بناء منصة رقمية إلا من خلال تحديد ماهية العملاء أولا ثم رسم صورة واضحة للتأثير الشبكي الإيجابي بينهم. وبالطبع تصمم حوكمة وقوانين لإدارة المنصة الرقمية ووسائل الإيرادات المالية واستراتيجية إطلاق المنصة إلى الفضاء الرقمي وسبل الاستفادة من الابتكار والإبداع المفتوح. إن عامل التأثير الشبكي الإيجابي وتسهيل تفاعل العملاء فيما بينهم ورسم القيم المتجددة لأمر ضروري من أجل استدامة المنصات الرقمية ورفع قيمتها السوقية. أخيرا، يتمثل الاستثمار الأفضل في شركات التقنية العالمية، التي تتبع نهج المنصات الرقمية، ويظل التحدي الحقيقي في بناء منصة رقمية محلية في منطقة الشرق الأوسط، تنافس قيمتها السوقية وتتنامى في ظل وجود صناعات محلية رائدة.

د. عصام بن عبدالعزيز العمار

الاقتصادية – الاربعاء9ديسمبر 2020

Share on facebook
Share on twitter
Share on linkedin
Share on whatsapp
Share on email

أحدث​ المقالات

الشلل الرقمي وتأثيره عالمياً

أصبحت التكنولوجيا الرقمية وما يرتبط بها من وسائل التواصل الاجتماعي والهواتف الذكية والمواقع الإلكترونية جزءاً هاماً من حياتنا اليومية ولا يمكن الاستغناء عنها، فجميعنا يتفقد

تفاصيل »

الذكاء الاصطناعي.. ثورة أم تهديد؟

يُعدُّ الذَّكاءُ الاصطناعيُّ، أداةً ثوريَّةً ستُحدِثُ تحوُّلًا هائلًا في كافَّةِ المجالاتِ، خاصَّةً الصناعةَ، فخلالِ السنواتِ القليلةِ المقبلةِ سيتغيَّرُ القطاعُ الصناعيُّ بشكلٍ جذريٍّ، وستحلُّ الربوتاتُ مكانَ

تفاصيل »