الصدع التكنولوجي العالمي المقبل

يجب أن يعمل أي نظام عالمي على إيجاد التوازن بين المكاسب من التجارة التي تتعاظم عندما تكون الضوابط التنظيمية متناغمة، والمكاسب المترتبة على التنوع التنظيمي التي تتعاظم عندما تكون كل حكومة وطنية حرة تماما في فعل ما تريد. وإذا كانت العولمة المفرطة أثبتت بالفعل هشاشتها، فإن هذا يرجع جزئيا إلى صناع السياسات الذين أعطوا الأولوية للمكاسب من التجارة على فوائد التنوع التنظيمي. وينبغي ألا يتكرر هذا الخطأ مع التكنولوجيات الجديدة.
إن المبادئ التي ينبغي لها أن توجه تفكيرنا في التكنولوجيات الجديدة، لا تختلف عن تلك التي توجه المجالات التقليدية. فربما تبتكر الدول معاييرها التنظيمية الخاصة بها وتحدد متطلبات الأمن الوطني. وربما تتخذ التدابير الضرورية للدفاع عن هذه المعايير وأمنها الوطني، بما في ذلك فرض القيود على التجارة والاستثمار. لكن ليس لها الحق في تدويل معاييرها ومحاولة فرض ضوابطها التنظيمية على دول أخرى.
لنتأمل هنا كيف تنطبق هذه المبادئ على شركة هواوي. لقد منعت حكومة الولايات المتحدة “هواوي” من الاستحواذ على شركات أمريكية، وقيدت عملياتها في الولايات المتحدة، وبدأت بإجراءات قانونية ضد إدارتها العليا، ومارست الضغوط على الحكومات الأجنبية لحملها على عدم التعامل معها، وأخيرا منعت الشركات الأمريكية من بيع رقائقها الإلكترونية لسلسلة توريد شركة هواوي في أي مكان في العالم.
لا يوجد من الأدلة القوية ما يؤكد أن شركة هواوي تمارس التجسس نيابة عن الحكومة الصينية. لكن هذا لا يعني أنها لن تفعل ذلك في المستقبل. لم يتمكن الخبراء الفنيون الغربيون الذين فحصوا برمجيات “هواوي” من استبعاد هذا الاحتمال. وقد يفضي الغموض الذي يحيط بممارسات الشركات في الصين إلى حجب الروابط بين “هواوي” والحكومة الصينية.
في ظل هذه الظروف، تنشأ حجة أمنية وطنية معقولة لمصلحة الولايات المتحدة أو أي دولة أخرى لتقييد عمليات “هواوي” داخل حدودها. والدول الأخرى بما في ذلك الصين، ليست في وضع يسمح لها بالتشكيك في صحة هذا القرار.
غير أن قرار حظر التصدير المفروض على الشركات الأمريكية يصعب تبريره على أساس أسباب تتعلق بالأمن الوطني، مقارنة بحظر عمليات “هواوي” في الولايات المتحدة. إذا كانت عمليات “هواوي” في دول ثالثة تفرض تهديدا أمنيا على هذه الدول، فإن حكوماتها هي الأقدر على تقييم المخاطر واتخاذ قرار ما إذا كان وقف التشغيل مناسبا أو غير مناسب.
علاوة على ذلك يفرض الحظر الأمريكي على دول أخرى تداعيات اقتصادية جسيمة. فهو يجد تأثيرات سلبية كبيرة لشركات الاتصالات الوطنية، مثل BT، وDeutsche Telekom، وSwisscom، وغير ذلك من الشركات، فيما لا يقل عن 170 دولة تعتمد على أطقم وأجهزة “هواوي”. ولعل الدول الفقيرة في إفريقيا، التي تعتمد بشكل كبير على معدات الشركة الأرخص تكلفة، هي الأشد تضررا.
باختصار، الولايات المتحدة لها مطلق الحرية في إغلاق سوقها أمام “هواوي”، لكن الجهود التي تبذلها لتدويل حملتها المحلية ضدها تفتقر إلى الشرعية. والواقع أن حالة “هواوي” تعد نذيرا بقدوم عالم يتفاعل فيه الأمن الوطني، والخصوصية والاقتصاد بطرق معقدة. وستفشل جهود الحوكمة العالمية والتعددية غالبا، لأسباب وجيهة وأخرى واهية. وأفضل ما يمكن أن نتوقعه يتمثل في مزيج تنظيمي قائم على قواعد أساسية واضحة تساعد على تمكين الدول من ملاحقة مصالحها الوطنية الأساسية دون تصدير مشكلاتها إلى الآخرين. وإما أن نصمم هذا المزيج بأنفسنا، أو تنتهي بنا الحال طوعا أو كرها، إلى نسخة فوضوية وأقل كفاءة وأشد خطورة.
خاص بـ “الاقتصادية”

داني رودريك

الاثنين 14 سبتمبر 2020



Share on facebook
Share on twitter
Share on linkedin
Share on whatsapp
Share on email

أحدث​ المقالات

الشلل الرقمي وتأثيره عالمياً

أصبحت التكنولوجيا الرقمية وما يرتبط بها من وسائل التواصل الاجتماعي والهواتف الذكية والمواقع الإلكترونية جزءاً هاماً من حياتنا اليومية ولا يمكن الاستغناء عنها، فجميعنا يتفقد

تفاصيل »

الذكاء الاصطناعي.. ثورة أم تهديد؟

يُعدُّ الذَّكاءُ الاصطناعيُّ، أداةً ثوريَّةً ستُحدِثُ تحوُّلًا هائلًا في كافَّةِ المجالاتِ، خاصَّةً الصناعةَ، فخلالِ السنواتِ القليلةِ المقبلةِ سيتغيَّرُ القطاعُ الصناعيُّ بشكلٍ جذريٍّ، وستحلُّ الربوتاتُ مكانَ

تفاصيل »