إدارة التقشف في ظل الأزمات: مبادئ وقواعد هامة (2)

تناولنا بالجزء الأول من هذا المقال القواعد المتعلقة بإدارة الموارد البشرية في زمن التقشف، وأهمية السلوك القيادي ‏لإدارة برامج وسياسات التقشف. وفي هذا الجزء الثاني، نتناول الاستراتيجيات المثلى لإدارة التقشف والقواعد المتعلقة بإجراء عمليات إعادة الهيكلة واحداث تغييرات بالتصميم التنظيمي وكيفية تبني المنظمات لخطة تغيير تنظيمي محكمة لسياسات وبرامج التقشف لمساعدتها على تجاوز الأزمات التي تواجهها.

الاستراتيجيات المثلى لإدارة برامج وسياسات التقشف

خلال الظروف الاستثنائية، على المنظمات انتهاج سياسات واستراتيجيات انكماشية دفاعية (defender strategies)، والابتعاد عن اتباع استراتيجيات توسّعية هجومية (prospector strategies)، بل والابتعاد أيضا عن اللعب بمنطقة الوسط. ذلك يعني ببساطة أن تحاول المنظمات التركيز على أداء عملياتها أو خدماتها الأساسية (core business) وتقوم بتجميد عملياتها الثانوية (peripheral business) والتي غالبا ما ترافق خدماتها الأساسية وإلغاء أو تحجيم البرامج والمشاريع ذات الأداء الضعيف. ومثال ذلك، يمكن للجامعات مثلا التركيز على أداء وظيفتها الجوهرية المتمثلة بمواصلة تقديم خدمة التعليم والتدريس وإلغاء أو تقليص تكاليف الأنشطة البحثية وعقد الندوات والمؤتمرات وتقديم الخدمات المجتمعية والاقتصار على الضروري منها فقط. في هذا السياق، أعلنت مجموعة خطوط الطيران الدولية (IAG) المالكة الأم لمجموعة شركات طيران ومنها شركة الخطوط البريطانية عن نيتها إعادة هيكلة عملياتها وإلغاء البرامج الزائدة وقامت شركة النفط الإنجليزية العملاقة (BP) بالاحتفاظ بالعاملين بخط التشغيل (frontline jobs) لأهميتهم لاستمرار عمليات الشركة التشغيلية الأساسية رغم خطتها لإلغاء 10,000 وظيفة مكتبية هذه العام [1].

عمليات إعادة الهيكلة واحداث تغييرات بالتصميم التنظيمي

يتوجه معظم تركيز المنظمات في إدارتها للتقشف حول فكرة الاقتطاعات النقدية وخفض النفقات المباشرة نظرا لسهولة الحصول على وفورات مالية ملموسة ذا أثر مباشر دون النظر لخيارات ممكنة أخرى مثل إحداث تغييرات ببناها الهيكلية التنظيمية وإعادة هيكلة عملياتها وطريقة أداء تلك العمليات لتحسين فرص تكييفها مع الظروف الأزماتية. في هذا السياق، نقترح على إدارة المنظمات في خططها التقشفية أن تتبنى اتجاها توفيقيا بين مركزية قرارات التقشف فيما يخص المحصلة النهائية بحجم الاقتطاعات، ولامركزية القرارات التي تتعلق بطريقة وكيفية القيام بذلك وحسب تقدير الإدارات المختصة.

أما عمليات إعادة الهيكلة، فيمكن أن تشمل إعادة تعريف وصياغة أهداف المنظمة ووحداتها، واستراتيجيات تحقيقها، ومراجعة هيكل وظائفها، ودمج المتشابهة منها، وإلغاء الأقسام والوحدات غير الضرورية، وإعادة توزيع العاملين فيها على الوحدات الأساسية والأكثر أهمية لبقاء المنظمة. ففي الولايات المتحدة، وجد مارك فورمان، وكان الرجل المكلف بتقييم مواطن الازدواجية والتداخل بعمل الأجهزة الحكومية الفيدرالية بعهد إدارة الرئيس بوش، أن 32 برنامج خدمة حكومية يتم تقديمها من قبل 19 جهة حكومية، فضلا عن وجود 18 نظاما غير موحد للمرتبات والدفع [2]. هذا، وقد أثبتت أزمة جائحة كورونا أنه من الممكن جدا تقديم الكثير من الخدمات للمستفيدين منها الكترونيا وعن بعد وتبسيط إجراءات الحصول عليها وأن كثير من الوظائف يمكن القيام بها عن بعد، حتى بأكثر المنظمات بيروقراطية منها كالحكومية منها، بيد أن ذلك كان بالأمر شبه المستحيل قبل الجائحة.

خطة تغيير تنظيمي محكمة لإدارة ملف التقشف

من الأهمية بمكان لإدارة عمليات التقشف أن تتبنى المنظمات خطة تغيير معلنة ذات رؤية واضحة المعالم لجميع الأطراف المتأثرة وذات العلاقة (stakeholders)، تكون على مراحل، تبين فيها دور ومسؤولية كل الأطراف وكيفية تأثّرهم بها، على أن يتم فيها اشراكهم في صياغتها وتنفيذها. كما يجب أن تشتمل الخطة خططا بديلة لإحداث التغيير المطلوب.

أما فيما يتعلق بنظم اتخاذ القرارات والتصرفات الإدارية، فعلى الإدارة أن تلتزم بمبادئ الحوكمة الرشيدة وأن تكون شفّافة، واضحة، صادقة وصريحة بما يكفي وأن تكشف لعامليها الأوضاع التي تواجهها منظمتهم والموقف المالي لها وإلى أين تريد أن تتجه. كما على الإدارة أن تقدم لهم ايجازا مستمرا حول مدى التقدم بتنفيذ الخطة والعوائق التي تعترضها، وأن تستمر باشراك العاملين والاستماع لوجهات نظرهم ومقترحاتهم حول كيفية مواجهة تلك العوائق وكيفية التعامل معها. إن ذلك من شأنه أن يضمن ولاء أكبر للعاملين لمنظمتهم وزيادة رغبتهم بتحمل المسؤولية جنبا إلى جنب مع الإدارة، وأكثر استعدادا للتضحية إن تطلب الأمر، والقبول بفلسفة “المشاركة بالغرم” (share-the-pain philosophy). فعندما انتهجت شركة زيلنكس (Xilinx) الأمريكية هذا الأسلوب واستطاعت تجاوز أزمتها الاقتصادية دون اللجوء لفكرة الاستغناء عن العاملين أو تسريحهم [3]، لم يجد عاملوها سانحة إلا وعبروا فيها عن مدى فخرهم بانتمائهم لشركتهم.

خلاصة القول

جرى العرف لدى كثير من المنظمات باختلاف أشكالها، وحال مواجهتها لظروف استثنائية أزماتية طارئة، أن تنتهج سياسات وإجراءات وخطط تقشفية قصيرة المدى وعلى رأسها تسريح العاملين أو الاقتطاع المباشر من مرتباتهم وامتيازاتهم وذلك للأسباب التي أوردناها سابقا. بيد أن قلة قلية من المنظمات التي تعتمد إجراءات أكثر رشدا وفاعلية على المدى البعيد، تستطيع من خلالها أن تحافظ على أهم مواردها وهي رأسمالها البشري.

إن الأزمات وما يرافقها من ظروف استثنائية قد تكون قاهرة أحيانا وتهدد وجود المنظمات باختلاف أشكالها، متوقعة الحدوث بأي وقت ولأي سبب. إلا أن التحدي الأكبر ليس بالأزمة نفسها، ولا بالإجراءات التقشفية التي تتخذها المنظمة، بل بكيفية إدارتها الإدارة الأنجع. الأزمة حتما سترحل بنهاية المطاف، وتصبح جزءً من ذاكرة المنظمة، فإن أحسنت إدارتها، تحولت تجربة إيجابية لأمد بعيد، وإلا فستترك آثارا نفسية سلبية على كل من عاشوها، يمتد أثرها أمدا طويلا بالمستقبل.


[1] Davies, Pascale, (2020). Coronavirus job cuts: Which companies in Europe are slashing their workforces because of COVID-19? Euronews, on 25.06.2020. Retrieved from:  https://www.euronews.com/2020/06/25/coronavirus-job-cuts-which-companies-in-europe-are-slashing-their-workforces-because-of-co

[2] Robb, Karen, (2002). OMB To Crack Down on IT Systems Standards, FederalTimes.com, July 1, 2002.

[3] Cascio, W. F., & Wynn, P. (2004). Managing a downsizing process. Human Resource Management Journal, 43(4), 425-436.‎

د. علي المستريحي

أستاذ مساعد للإدارة العامة بمعهد الدوحة للدراسات العليا.

Share on facebook
Share on twitter
Share on linkedin
Share on whatsapp
Share on email

أحدث​ المقالات

الشلل الرقمي وتأثيره عالمياً

أصبحت التكنولوجيا الرقمية وما يرتبط بها من وسائل التواصل الاجتماعي والهواتف الذكية والمواقع الإلكترونية جزءاً هاماً من حياتنا اليومية ولا يمكن الاستغناء عنها، فجميعنا يتفقد

تفاصيل »

الذكاء الاصطناعي.. ثورة أم تهديد؟

يُعدُّ الذَّكاءُ الاصطناعيُّ، أداةً ثوريَّةً ستُحدِثُ تحوُّلًا هائلًا في كافَّةِ المجالاتِ، خاصَّةً الصناعةَ، فخلالِ السنواتِ القليلةِ المقبلةِ سيتغيَّرُ القطاعُ الصناعيُّ بشكلٍ جذريٍّ، وستحلُّ الربوتاتُ مكانَ

تفاصيل »