إدارة التقشف في ظل الأزمات: مبادئ وقواعد هامة (1)

لقد كثرت أزمات العصر الحديث وتعددت أشكالها ومسبباتها، الأمر الذي تجد فيه كثير من المنظمات نفسها مضطرة لاتخاذ إجراءات تقشفية قاسية لخفض وترشيد نفقاتها من أجل بقائها. ولكن اللافت أن كثير من المنظمات تقوم بهذه الإجراءات بشكل أقرب ما يكون للارتجالية غير المحكمة، ودون اتباع منهج محدد مضبوط بأطر إدارية ومبادئ وقواعد رصينة. والمثير للاهتمام هنا، أن الأدبيات الإدارية لا زالت تفتقر، وبشدة، إلى ما يمكن أن يسعف المنظمات ويساعدها على اتخاذ قرارات أكثر فاعلية ورشدا في ادارتها لعمليات التقشف.

هذا المقال هو محاولة جادة وأساسية لتطوير مجموعة من المبادئ والقواعد التي يمكن الاسترشاد بها لضبط وحوكمة عملية إدارة التقشف والترشيد المالي والإداري أثناء الظروف العاصفة التي تواجه المنظمات على اختلاف أنواعها. هذا، وينقسم هذا المقال إلى جزأين، حيث يتناول الجزء الأول القواعد المتعلقة بإدارة الموارد البشرية في زمن التقشف وأهمية السلوك القيادي لإدارة برامج وسياسات التقشف. بينما يتناول الجزء الثاني الاستراتيجيات المثلى لإدارة التقشف والقواعد المتعلقة بإجراء عمليات إعادة الهيكلة واحداث تغييرات بالتصميم التنظيمي وكيفية تبني المنظمات لخطة تغيير تنظيمي محكمة لسياسات وبرامج التقشف لمساعدتها على تجاوز الأزمات التي تواجهها.

إدارة الموارد البشرية في زمن التقشف

إن القاعدة الأساسية عند اتخاذ المنظمات لأي إجراءات تقشفية هي أن تتجنب الاقتطاع من رواتب وبدلات العاملين لديها أو الاستغناء عنهم قدر الإمكان (Fuller, 2017)[1]، أو على الأقل تتجنب أن يكون ذلك أول الحلول، بل الملاذ الأخير، لأن المورد البشري هو أهم موارد المنظمات والمحرك لها جميعا. وبالرغم من الظروف العاصفة الحالية التي خلفتها جائحة كورونا، إلا أن عدد من الشركات المعروفة في الهند مثل Asian Paints و ‎ Johnson & Johnsonحاولت الصمود بقوة وتجنبت الاقتطاع من رواتب العاملين ومنافعهم، بل وبالعكس، استمرت بمنح الترقيات والزيادات المقرة، باعتبار أن العاملين خلال هذه الظروف هم أحوج ما يكونوا للدعم المادي والمعنوي Basu  (2020)[2]. والمثير للاهتمام هنا، أن الدراسات التي تتبعت أداء المنظمات التي انتهجت سياسات تخفيض العمالة لديها أثبتت أن أداءها لم يتفوق البتة على أداء المنظمات التي لم تقم بذلك أصلا [3].

أما عندما يكون الاقتطاع من رواتب الموظفين شرا لا بد منه، فإنه لا يزال لدى الإدارة خيارات عدة للقيام بذلك وبطرق مختلفة وأكثر رشدا، منها تشجيع خيار التقاعد المبكر، وهو ما فعلته حكومة ولاية ويسكنسون الأمريكية خلال أزمتها المالية سنة 2002 وأحرزت نتائج مرضية (Rinard, 2002) [4]، أو تقديم خيار الاجازات غير مدفوعة الأجر كما قامت شركة تصنيع الموصّلات الكهربائية التايوانية (TSMC) خلال أزمتها المالية سنة 2009، حيث استطاعت هذه الأخيرة بعدها أن تعيد من قامت بتسريحهم بل تجاوزت نسبة تشغيل فاقت بكثير ما كان عليه الحال قبل الأزمة [5]. أيضا، يمكن للإدارة أن تحدث تعديلات على أنظمة الدفع والحوافز، بطريقة يتم فيها الربط بين مدى قدرة العاملين والوحدات المختلفة على الحد من كلف التشغيل والحوافز الممنوحة لهم وتشجيع ومكافأة الموظفين المبدعين، ولنا بالتجربة النيوزلندية خير مثال، فقد استحدثت الحكومة نظاما للربط بين مقدار التخفيض في النفقات التي يحققها المديرون العامون للهيئات الحكومية بقرار تجديد عقودهم سنويا (Eggers, 2002)[6]. كل هذا فضلا عن الخيارات المتعددة للتوظيف المرن، والعمل الجزئي أو عن بعد ‏ أو العمل الموسمي أو غيرها أو مزيج‏ منها ‏جميعا. ‏كما يمكن للمنظمات تجميد عمليات التوظيف وتركز على الموارد البشرية المتاحة لها ‏بتمكينها وتدريبها وإعادة تدويرها بما يضمن ‏الاستفادة القصوى منها.

ونود الإشارة هنا إلى أن هناك “قادة” أذكياء وجدوا الأزمات سانحة لاستقطاب بعض العاملين الذين استغنى عنهم ‏منافسوهم للعمل في منظماتهم، مثلما قام به رجل الأعمال الأردني زياد المناصير، الرئيس التنفيذي ‏لمجموعة المناصير، بتوظيف 2600 موظف في شركاته خلال الأزمة المالية العالمية ‏عام ‏‏2009، وكانوا من الكفاءات التي استغنت عنها شركاتهم خلال تلك الأزمة [7]‏.

القيادة والعدالة ضرورتان لإدارة برامج التقشف

الظروف الاستثنائية تحتاج لمهارات قيادية استثنائية أيضا. فـ “القيادة” تركز على تحقيق الأهداف بطرق وأساليب إبداعية، فضلا عن تركيزها على تحقيق العدالة (equity) واستشراف المستقبل وتجاوز التفاصيل. في حين تركز “الإدارة” على معايير الكفاءة (efficiency) والجوانب الكمية في ترشيد النفقات والميل لتحقيق المساواة (equality) أكثر من العدالة والانصاف (equity and fairness). فعند الاقتطاع من مرتبات الموظفين، عادة ما يهتم “المدير” بمساواة العاملين بالاقتطاع بصرف النظر عن فئاتهم، ومدى تأثر وقدرة كل فئة على تحمل الاقتطاع، فتشعر هذه الفئات بالظلم الناتج عن مساواتهم بغيرهم. والمدير عادة لا يميّز كثيرا بين الوحدات الأكثر انتاجية من غيرها، مما لا يحقق مبدأ العدالة. وعندما تجد الإدارة أن الاقتطاع من رواتب وبدلات العاملين لديها أمرٌ لا مفر منه، فالأصل أن تساوي نفسها بالعاملين، وذلك أضعف الايمان. أما إن أرادت أن تتصرف حسب معايير القيادة، فعليها أن تبدأ بنفسها أولا فتكون القدوة لغيرها. لقد قالها غاندي للناس في كفاحه من أجل استقلال الهند ذات مرة: “إذا واجهنا المجاعة، كونوا على يقين أننا سنأكل بعد أن تأكلون”. ويعتبر “لي أياكوكا” مثالا آخر على ذلك، فبعد أن اختلف مع مالك شركة فورد الأمريكية نتيجة لأفكاره غير التقليدية وتم طرده منها عام 1978، استقطبته شركة كرايسلر وقد شارفت حينها على الإفلاس ليكون مديرها التنفيذي لها، فكان أول قرار اتخذه فور توليه قيادة الشركة أن جعل راتبه دولارا واحدا فقط مع أن مرتبه فيها كان 360 ألف دولارا! [8].


[1] Fuller, C. (2017) City government in an age of austerity: discursive institutions and critique. Environment and Planning. 49 (4), 745–766.

[2] Basu, S., (2020). Amid paycuts and layoffs, some companies chose to shield staff during the Covid storm. The Economic Times on 28.05.2020. Retrieved on 26.06.2020 from: https://economictimes.indiatimes.com/jobs/cos-that-chose-to-shield-staff-during-the-storm/articleshow/76051891.cms

[3] Cascio, W., (2009). Employment Downsizing and its Alternatives, Strategies for Long-Term Success. Society for Human Resource Management (SHRM) Foundation. Retrieved on 26.06.2020 from: https://www.shrm.org/hr-today/trends-and-forecasting/special-reports-and-expert-views/Documents/Employment-Downsizing.pdf

[4] Rinard, Amy, (2002). Ellis Slaps Both Parties Over Budget Bills, Milwaukee Journal Sentinel, April 14, 02Z.

[5] Cascio, W., (2009). ‎Op Cit.

[6] Eggers, W., (2002). Eggers, W., (2002). Show Me the Money Budget-Cutting Strategies for Cash-Strapped States. ‎Report ‎by the American Legislative Exchange Council and The Manhattan Institute for ‎Policy Research. ‎Retrieved on 24.6.2020, from: https://media4.manhattan-‎institute.org/pdf/state_budget_report.pdf

[7]  ‎ ‎‏”الملياردير الاردني زيد المناصير لا يعرف كم وصلت ثروته”، جفرا نيوز، رابط: http://www.jfranews.com.jo/post.php?id=11048‎

[8] Spector, B., (2014). Flawed from the ‘‘Get-Go’’: Lee Iacocca and the origins of transformational leadership. Leadership, Vol. 10(3): 361–379. https://journals.sagepub.com/doi/pdf/10.1177/1742715013514881

د. علي المستريحي

أستاذ مساعد للإدارة العامة بمعهد الدوحة للدراسات العليا.

Share on facebook
Share on twitter
Share on linkedin
Share on whatsapp
Share on email

أحدث​ المقالات

الشلل الرقمي وتأثيره عالمياً

أصبحت التكنولوجيا الرقمية وما يرتبط بها من وسائل التواصل الاجتماعي والهواتف الذكية والمواقع الإلكترونية جزءاً هاماً من حياتنا اليومية ولا يمكن الاستغناء عنها، فجميعنا يتفقد

تفاصيل »

الذكاء الاصطناعي.. ثورة أم تهديد؟

يُعدُّ الذَّكاءُ الاصطناعيُّ، أداةً ثوريَّةً ستُحدِثُ تحوُّلًا هائلًا في كافَّةِ المجالاتِ، خاصَّةً الصناعةَ، فخلالِ السنواتِ القليلةِ المقبلةِ سيتغيَّرُ القطاعُ الصناعيُّ بشكلٍ جذريٍّ، وستحلُّ الربوتاتُ مكانَ

تفاصيل »