عندما تطغى السياسة على الاقتصاد .. الاتحاد السوفيتي مثالا

لا يهدف هذا المقال إلى مناقشة أسباب انهيار الاتحاد السوفيتي، فهي معروفة كالشمس في رابعة النهار. وانما هنا نتساءل: كيف فشلت عقول الإدارة السوفيتية (الشيوعية) التي نجحت في إقناع أكثر من نصف سكان العالم بعقيدتها ومذهبها الاشتراكي ووصلت إلى الفضاء، في استثمار قدراتها الاقتصادية والأمنية والسيوجغرافية الهائلة لتعزيز وبقاء مكانتها كقوة عظمى عالمية والنهوض بمجتمعها إلى الازدهار والنمو؟ كيف وثقت دول عدة بالقيادة السوفيتية لحمايتها ووضعت مستقبلها في أياديها؟ 

لقد نجح فريق البلاشفة في «حزب العمال الاشتراكي الديمقراطي» بقيادة فلاديمير لينين عام 1917 في إنشاء دولة الاتحاد السوفيتي التي أصبحت فيما بعد دولة عظمى بكل ما تعنيه الكلمة.. كانت بيدها موارد اقتصادية هائلة وقوة عسكرية رهيبة تهابها دول العالم ومساحة جغرافية هي الأكبر في العالم. وهو إحدى الدول الخمس الدائمة العضوية في مجلس الامن، مع امتلاكه حق النقض (الفيتو). بدأ الاتحاد السوفيتي بأربع دول هي جمهورية روسيا، وجمهورية أوكرانيا، وجمهورية بيلاروسيا، وجمهورية ما وراء القوقاز، قبل أن يضم عشر جمهوريات هي أوزبكستان وتركمانستان (1924) وطاجكستان (1929) وأذربيجان وكازاخستان وقرغيزستان (1936) وإستونيا ولاتفيا وليتوانيا ومولدافيا (1940). وبلغت المساحة الجغرافية الاجمالية 22402200 كيلومتر مربع وأكثر من 293 مليون نسمة.

عسكريا كان عدد القوات العاملة في الاتحاد السوفيتي 3.4 ملايين فرد، وقوات الاحتياط أكثر من خمسة ملايين، إضافة إلى 570 ألف عنصر تابعين لجهاز الاستخبارات (KGB) ووزارة الداخلية. كان الاتحاد متطورا أكثر من الولايات المتحدة في كثير من المجالات وخاصة في جوانب التقنية العسكرية. اقتصاديا كان الأول عالميا في قطاع الطاقة، فقد كان ينتج ما يعادل 20% من النفط العالمي، وكان يحتل المرتبة الثالثة في إنتاج الفحم، ووصل نصيب الصناعة في الإنتاج الوطني 70%، كما وصلت نسبة الصناعة الثقيلة إلى 74% من قطاع الصناعة الكلي. وبحسب الإحصائيات السوفيتية الرسمية لعام 1990 بلغ إجمالي الناتج المحلي للاتحاد السوفياتي 2660 بليون دولار تقريبا وهو المنافس الأول للولايات المتحدة، إذ بلغ متوسط دخل الفرد 9130 دولارا.

بهذه القدرات والموارد مع استغلالها وإدارتها بحكمة وبرؤية بعيدة المدى وبشكل وطني واستراتيجي لا حزبي ولا سياسي لا يمكن لأي دولة وأي حكومة إلا تحقيق الإنجازات المذهلة التي يطمح إليها شعبها.

كيف عجزت هذه الدولة العظمى بهذا الكم الهائل من الموارد والامكانيات الجيوسياسية والاقتصادية عن تحقيق التنمية المستدامة وحماية مصالح شعبها؟ بلدان أخرى كالصين والهند وكوريا الجنوبية وسنغافورة استطاعت بموارد أقل كثيراً مما كان يملك الاتحاد السوفيتي تحقيق المعجزات الاقتصادية والنهوض بمجتمعاتها إلى مصاف المجتمعات الصناعية. 

حاول لينين الثوري الماركسي السياسي المخضرم تكوين قوة اقتصادية عظمى من خلال منهجية الخطط الاقتصادية الخمسية التي أصبحت السياسة المفضلة لدى الحكومات المتعاقبة في الدولة السوفيتية. وجاء بعده ستالين الذي اعتمد على «التخطيط الاقتصادي»، وقام بإلغاء القطاع الخاص بالكامل، وفرض الشيوعية في مختلف أقاليم الاتحاد. في عام 1953 تولى السلطة نيكيتا خروتشوف وأنشأ حلف وارسو العسكري الاشتراكي (1955) ليماثل حلف الناتو، وكشف الفظائع التي ارتكبت طوال حكم ستالين وأقصى كل الفاسدين. وهكذا تعاقب على السلطة كبار الساسة العجائز من الشيوعيين الماركسيين إلى أن جاء ميخائيل غورباتشوف إلى سدة الحكم، الذي وجد بلاده غارقة في فساد اقتصادي وسياسي ممنهج لا يحتمل وعقود من الركود الاقتصادي. كل هؤلاء القادة المخضرمون سياسيا فشلوا في محاربة الفقر والنهوض بمجتمعهم اقتصاديا. فشلوا بسبب تجاهلهم للتنمية المستدامة والارتقاء بقدرات ومعارف ومهارات الأفراد الذين هم سواعد العملية التنموية وتشكيل اتجاهاتهم وقيمهم. فشلوا لأن أهدافهم الاستراتيجية ورؤيتهم كانت سياسية وحزبية بحتة. لم يكن في عقيدتهم استثمار الطاقات والقدرات المادية والبشرية الموجودة في المجتمع لتحقيق الرفاهية للجميع واستدامتها.

فشلوا لأنهم لم يضعوا الهدف الاقتصادي هدفاً أساسياً لتكون السياسة في خدمة مصالح المجتمع. فعلى الرغم من التقدم في الفكر السياسي وتطوره في هذا البلد فإنه بتجاهله العقيدة الاقتصادية دفع تكاليف باهظة ماديا وبشريا ما أدت إلى انهيار كارثي تاريخي. إن وفرة الموارد وضخامتها ومتانة الجيش العسكري وقوته وحجم المساحة الجغرافية للبلد لا تكفي لتحقيق الازدهار الاقتصادي عندما تكون السياسة والمصالح الحزبية -وليس الوطنية- هي الشغل الشاغل في فكر الدولة.

د. جعفر الصائغ

أخبار الخليج

Share on facebook
Share on twitter
Share on linkedin
Share on whatsapp
Share on email

أحدث​ المقالات

الشلل الرقمي وتأثيره عالمياً

أصبحت التكنولوجيا الرقمية وما يرتبط بها من وسائل التواصل الاجتماعي والهواتف الذكية والمواقع الإلكترونية جزءاً هاماً من حياتنا اليومية ولا يمكن الاستغناء عنها، فجميعنا يتفقد

تفاصيل »

الذكاء الاصطناعي.. ثورة أم تهديد؟

يُعدُّ الذَّكاءُ الاصطناعيُّ، أداةً ثوريَّةً ستُحدِثُ تحوُّلًا هائلًا في كافَّةِ المجالاتِ، خاصَّةً الصناعةَ، فخلالِ السنواتِ القليلةِ المقبلةِ سيتغيَّرُ القطاعُ الصناعيُّ بشكلٍ جذريٍّ، وستحلُّ الربوتاتُ مكانَ

تفاصيل »