يلقي بعضهم الحمل على البنوك للخروج من الضغوطات الاقتصادية التي نتجت عن وباء فيروس كورونا، بتنشيط الاقتصاد ومنح المزيد من القروض بعض النظر عن الجدارة الائتمانية للمقترضين، وجدولة وهيكلة القائم منها وما قد يتبع ذلك تكلفة اضافية على المقترضين في معظم الاحيان، وكذلك دخول البنوك باستثمارات جديدة. فهل هذه هي الحلول المتاحة للخروج من الازمة، وهل الظروف المحيطة تسمح بالتضحية بالبنوك التي زادت متانتها المالية بعد الازمة العالمية التي حصلت العام 2008 وهل في قدرتها التحمل لتكون مصدرا رئيسا للاستقرار المالي والنموالاقتصادي.
بداية فان الاوضاع الاقتصادية ووفقا لتوقعات صندوق النقد الدولي في ركود اقتصادي عالمي اعمق خلال العام الحالي، وتعاف ابطأ بالعام 2021، ومازالت توقعات الصندوق متشائمة، حيث انه ولأول مرة منذ الكساد الكبير ستكون الاقتصادات المتقدمة واقتصادات الاسواق الصاعدة في حالة ركود متزامن وذلك نتيجة لما سمته غيتا غوبيناث (مدير ادارة البحوث بصندوق النقد الدولي) بالاغلاق العام الكبير. ومن غير المتوقع ان يتحقق اي انتعاش اقتصادي حتى يتم احتواء الفيروس، ومن المتوقع ان ينخفض حجم الانفاق اضافة الى تراجع الاوضاع المالية للشركات، ومن المتوقع ان تعلن عدد من الشركات افلاسها خلال الستة شهور المقبلة خاصة المؤسسات المتوسطة والصغيرة، وذلك في معظمه ناتج عن السلوك التحوطي الناتج من حالة عدم اليقين لمسار الجائحة الذي سيدفعهم الى زيادة الادخار.
وسوف تؤثر الجانحة ايضا في العديد من الانشطة التي تتضمن احتكاكا اجتماعيا واتصالا بشريا وستستمر قي احداث تغييرات كبيرة في انماط الاستهلاك والانتاج، حيث وبسبب انخفاض الطلب الاستهلاكي سيعاني مثلا قطاع الخدمات (مثل الضيافة والسفر والسياحة بشكل عام) والذي عادةً يتاثر بشكل اقل بالازمات المالية من القطاعات الاخرى. وبالمقابل فان هناك قطاعات جديدة آخذة بالتوسع، الا ان هذه القطاعات اقل كثافة من حيث الايدي العاملة وأكثر كثافة من حيث المهارات مقارنة بالقطاعات التي اخذت بالانحسار، مما يجعل انتقال العاملين بين هذه القطاعات ليس بالامر اليسير. هذا اضافة الى التاثيرات الاقتصادية الانكماشية بسبب الاتمتة التي اصبحت اكثر تفضيلا عند اصحاب العمل نظرا لاستحالة اصابتها بالفيروس. وكل ذلك يعني بالمحصلة ارتفاع نسب البطالة.
اضافة الى اقتراب اسعار الفائدة الى الصفر فان السياسة النقدية لن تستطيع تحفيز الاقتصاد او اصلاح مشاكل الملاءة المالية. وفي الوقت ذاته ازداد حجم السيولة لدى البنوك وقد يقع الاقتصاد في مصيدة السيولة نظرا لارتفاع حجم ودائع العملاء لديها وفي الوقت ذاته عدم توفر مقترضين ذوي جدارة ائتمانية مرتفعة. والخوف من احتمال حصول مضاربات بالاسواق المالية. علما ان البنوك الاميركية مثلا ارتفع حجم الودائع لديها بنحو 2 تريليون دولار أميركي منذ بداية الازمة لنهاية حزيران.
في ظل هذه الظروف الاقتصادية الحساسة تقوم البنوك ،التي اصبحت اقوى بسبب الاصلاحات الرقابية بعد الازمة العالمية 2008 الصادرة عن مجموعة العشرين، بدور مهم في تخفيف اثارها من خلال استمرار عملية الاقراض للنشاط الاقتصادي وخاصة للمتضررين من هذه الازمة، الا انه من المتوقع ان تزداد حالات التعثر وبالتالي التأثير في الملاءة المالية للبنوك، وقد وضع خبراء صندوق النقد الدولي والبنك الدولي أخيراً مذكره تحليلية جاء بها تسع توصيات ارشادية لاجهزة الرقابة المصرفية في استجابتها للجائحة.
و حذر صندوق النقد الدولي في تقرير الاستقرار المالي الصادر في حزيران(يونيو) 2020 من ان مستويات الديون المرتفعة يمكن ان تخرج عن سيطرة بعض المقترضين والخسائر الناتجة عن حالات الاعسار يمكن ان تختبر صلابة البنوك في بعض البلدان(حيث توقعت وكالة S&P ان تصل خسائر البنوك بسبب الجانحه نحو 2 تريليون دولار اميركي خلال العام الحالي والمقبل)، كما اوضح التقرير انه ينبغي استخدام ما تملكه البنوك من هوامش امان احترازية كلية رأسمالية لاستيعاب الخسائر وادارة مشكلات السيولة والمساعدة في دعم الاقراض الموجه للاقتصاد. وعلى البنوك ان توقف توزيع دفع الارباح وعمليات اعادة شراء الاسهم ما دامت الأزمة قائمة، للمساعدة في دعم هوامش أمان رأس المال. وفي الحالات التي تواجه فيها البنوك صدمات كبيرة وطويلة الأمد، وتتأثر فيها مستويات كفاية رأس المال، ينبغي ان تتخذ أجهزة الرقابة المصرفية إجراءات موجهة، ومنها ان تطلب الى البنوك تقديم خطط ذات مصداقية لتعويض راس المال . وطوال هذه العملية، سيكون من المهم مراعاة الافصاح عن المخاطر بشفافية وتقديم ارشادات واضحة من الأجهزة الرقابية. وفي الوقت ذاته دعت شركة ماكنزي البنوك الى دعم المجتمعات التي تعمل ضمنها وان تبني عقدا اجتماعيا جديدا مع عملائها، بحيث تقوم البنوك في هذه الاوضاع بمساعدة العملاء مجانا في عملية وضع الموازنات التقديرية، ومنح التبرعات للفئات التي تأثرت بالوباء اضافة الى توجيه قنواتهم الاعلاميه والتسويقية تجاه نشر معلومات العناية الصحية، وفي حال كان هناك امكانية ان تكون فروع البنوك لعمل الفحوصات للوباء، وخاصة للبلدان التي تعاني انشطتها معاناة شديدة، فيكون الدعم لمواطنيها من خلال تأمينات البطالة، دعم الاجور، التحويلات النقدية، دعم الشركات المتضررة من خلال تأجيل الضرائب وتقديم لقروض ومنح ضمانات الائتمان وتوفير المنح. وان يتم استخدام المدفوعات الرقمية للوصول الى القطاعات غير الرسمية، وان يكملها الدعم العيني والادوية وغيرها من السلع الاستهلاكية الاساسية من الحكومات والمنظمات المجتمعية، اما الدول التي شرعت في اعادة فتح اقتصاداتها وبدات تتعافى يتعين تحويل دعم السياسات بالتدريج نحو الافراد على العودة للعمل، وتسهيل اعادة توزيع العاملين على القطاعات التي يتزايد الطلب فيها بعيدا عن القطاعات التي تشهد تقليصاً. ويمكن ان تاخذ ذلك شكل نفقات تدريب العاملين ودعم التوظيف وتوجيهها الى العاملين الذين يواجهون مخاطر اكبر من البطالة طويلة المدى. ووضع اطر قوية للاعسار واليات لاعادة هيكلة الديون والتخلص من الديون المتعثرة. ومن اجل حماية اضعف فئات السكان يتعين التوسع في الانفاق من شبكات الامان الاجتماعية لبعض الوقت، وسوف تحتاج البلدان الى اطر مالية سليمة لضبط الاوضاع على المدى المتوسط من خلال تخفيض الانفاق المهدر للموارد وتوسيع الوعاء الضريبي وتقليص التحايل الضريبي الى ادنى حد وزيادة الطبيعة التصاعدية للضرائب المفروضة في بعض البلدان.
ذكر جوزيف ستيغلتس في مقالته في Project Syndicate في7/1/ 2020 انه لا يمكن ان يتحقق اي انتعاش اقتصادي حتى يتم احتواء الفيروس، وفي الوقت ذاته من الضروري تطبيق سياسات لحماية الاشخاص الاكثر احتياجاً، وتوفير السيولة لمنع حدوث حالات افلاس والحفاظ على الروابط بين العمال وشركاتهم وذلك لضمان سرعة اعادة التشغيل عندما يحين الوقت. واضاف انه لا ينبغي ان يتم انقاذ الشركات التي كانت بالفعل في حالة تراجع قبل الازمة مثل بائعي التجزئة الذين يعملون على الطريقة القديمة. لان هذا لن يؤدي سوى الى خلق مجموعة من ” الموتى الاحياء” ، مما يحد في النهاية من حيوية ونمو الاقتصاد، ولا ينبغي لنا ان ننقذ الشركات التي كانت مثقلة بالديون بحيث كانت أصلاً لا تستطيع ان تتحمل اي صدمة.
وفي مقالة اخرى لجوزيف ستيغلتس في المجلة ذاتها بداية حزيران، يؤكد اهمية تقليل المخاطر وزيادة الحافز على الانفاق كوسيلة للخروج من الازمة. وبعد انتقاده لاسلوب منح الشيكات النقديه كاسلوب لتحفيز الاقتصاد، كون ان الناس وتحسبا من حالة عدم اليقين قاموا بايداع النقود في البنوك التي اصبح لديها سيولة فائضة، ذكر ان من الاساليب التي قد تسهم في تحسين الظروف الاقتصاديةـ ان تقوم الحكومة بتقديم مثلا تقديم الضمانات انه في حال قام احد الاشخاص بشراء سيارة واستمر المنحنى الوبائي للستة شهور المقبلة، فان الاقساط الشهرية تتم ايقافها، كذلك يمكن الحث على منح القروض لتشجيع شراء السلع المعمرة والمنازل، وكذلك يمكن دعم الاستثمارات الحقيقية للمؤسسات.
كما يمكن ان تقوم الحكومات باصدار كوبونات digital coupons للانفاق لتحفيز الاستهلاك وهو مطبق فعليا في الصين لشراء العديد من السلع والخدمات ضمن اطار زمني محدد، وبحيث تنتهي مدتها في زمن محدد يشجع على زيادة حجم الاستهلاك.
هناك اساليب اخرى تم استعمالها بتزويد المساعدة للمؤسسات بشرط ابقاء العاملين لديهم ودعم رواتبهم وتكلفتهم الاخرى بشكل يتناسب مع تراجع ايراداتهم، ويحذر ستيغلتس من ان اساليب التحفيز ذات التصميم السيء اضافة لعدم فاعليتها فانها قد تؤثر على عدم تحقيق المساواة والاستقرار وتقلل من حجم الدعم السياسي للحكومات لكي تقوم بمنع الاقتصاد من السقوط في ركود طويل.
كما لا ننسى هنا اهمية تدعيم الشراكة بين القطاعين العام والخاص والتي أكد العاملون في البنك الدولي ان لها دورا حيويا في تطوير البنية التحتية الامر الذي يساعد في حماية الارباح وسبل كسب العيش ومستقبل البلدان. وانه لا بد ان تتم مراجعة المشاريع القائمة حاليا لتحديد المخاطر المالية الكبيرة واذا كان اداء المشروعات ضعيفا او انها دخلت في حالة من التعثر المالي وضرورة وضع الخيارات لحماية استمرار تنفيذ خدمات البنية التحتية المهمة مع ادارة آثار ذلك في المالية العامة.
نهاية فان الازمة وما حملتها من تأثيرات سلبية تتطلب تضامن الجميع وتعاونهم افرادا وجماعات، حكومات ومؤسسات قطاعا خاصا، ومجتمعا مدنيا وبيوت خبرة كلٌّ في دوره، وكل ذلك ضمن الخيارات المتاحة بحيث تتم المقارنة بين اساليب العلاج المختلفة واختيار الافضل والانسب لتحفيز الاقتصاد والعودة الى عجلة الانتاج كما كانت وافضل.
المصدر: الغد