النظريات ومولدات الأزمات الاجتماعية

لم يظهر خطر كارل ماركس صاحب كتاب رأس المال ودعوته الشيوعية في اكتشاف مكونات الطبقية وآثارها الخطيرة، بل في توظيفها المدمر. فقد بذل مجهودا ضخما استطاع من خلاله إقناع العمال بأنهم طبقة مستقلة، وأن أصحاب رأس المال طبقة أخرى مختلفة، وأن هاتين الطبقتين تشكلان معا المجتمع الرأسمالي، ثم مضى طويلا في شرح الفرق بين الطبقة المهيمنة والطبقة المطحونة، على أساس أن الطبقة المهيمنة تسيطر على عوامل الإنتاج كافة وتضع القوانين التي تعزز موقفها، بينما الطبقة الأخرى تعاني الظلم والاضطهاد والسخرة لدى الطبقة المهيمنة. ثم مضى يشرح كيف يتم تغيير هذا مما لا مجال لشرحه هنا، وكيف تصبح الطبقة المطحونة هي المهيمنة؟ ولذا دعا إلى الثورة وتفكيك الحكومة. لكن أصعب ما كان يواجه ماركس هو إقناع العمال بذلك، وقد احتاج الأمر منه إلى أن يمنح هذه الطبقة اسما، فسماها “البروليتاريا”، وسمى طبقة أصحاب رأس المال بـ”الرأسماليين” وأدخل معهم الحكومة، والسياسيين عموما، ثم جاهد كثيرا في رسم الحدود بين الطبقتين على أساس أن كل طبقة يجب أن تكون لها فواصل واضحة عن الأخرى، فواصل تظهر في الفنون والمسرح، بل حتى في طريقة الحياة والمعيشة والمعمار، وقد نجح بشكل مذهل في جعل الطبقة المطحونة تشعر بذاتها وبوضوح، لكن المدهش حقا، أن الطبقة المهيمنة بدأت تشعر بذاتها أيضا، ولقد أخذ ذلك جهدا كبيرا ورسائل كثيرة، لكنه نجح في نهاية الأمر. بعد ذلك أصبحت الأمور أكثر سهولة فكل طبقة تشعر بذاتها منفصلة تماما عن الأخرى، ما قاد إلى تشكيل عقدين اجتماعيين داخل المجتمع الواحد، وتمت تغذية الجماهير من أجل الثورة التي بمجرد حدوثها كانت هناك قيادة جاهزة مستعدة لتقفز للسلطة باسم الجماهير الثائرة وتفرض القوانين الجديدة.
لقد آمن الجميع بأن نظرية طبقية الاقتصاد الرأسمالي تشكل أزمة، وعلى أساس أن الاشتراكية حل يلغيها تماما، ورغم أن هذا غير صحيح عموما، لكن من الصعب إقناع أي شخص بعكس ذلك، بل إن الرأسماليين أنفسهم اقتنعوا بهذا، بل أصبحت مثل هذه الوصمة مفيدة بالنسبة لهم وتفسر بعض التصرفات الانتهازية المجرمة اجتماعيا، بيد أنهم استطاعوا التخلص من عبء الشعور بالذنب بفرض قوانين وتشريعات لتصرفاتهم. الطبقية كارثة كبرى عموما، وقد حاربها الإسلام بكل الوسائل، وقد أرسل النبي الكريم من أجل تحرير العباد، وأن لا فرق بينهم، وأن الله هو ربهم جميعا وهو أولى بهم، وفي القرآن آيات كثيرة في هذا الشأن.
لكن استخدام فكر الطبقية تجاوز المسألة الاقتصادية تماما، وانتشر بغرابة عند كل من يريد أن يقفز على السلطة ويفرض على المجتمعات قوانينه من خلال صناعة الطبقية، وأقول “صناعة الطبقية”؛ لأن ذلك أصبح فكرا خاصة مع انتشار أفكار ما بعد الحداثة التفكيكية وأدوات وأساليب التواصل الاجتماعي. فمن السهل اليوم إقناع جموع من الناس سواء كانوا رجالا أو نساء بأنهم طبقة مستقلة، ومن ثم العمل على تغذية هذا الشعور في المجتمع الحاضن نفسه، الذي يبدأ بالعمل فعليا كطبقة مهيمنة تتعرض ثقافتها للهجوم، وهنا يقع المجتمع بأسره في الفخ، وفي هذا طريق طويل لكنه أثبت فاعليته في المجتمعات كافة، وعزز ذلك انتشار وسائل التواصل الاجتماعي. لكن الأمر ليس ببساطة التنظير له، فتفكيك المجتمع إلى طبقتين لا يتم بسهولة لكن من خلال تفاعل أمرين معا، أولا: أن يتم وضع مسمى واضح وصريح للطبقة المقصودة، ثانيا: بث شعور المظلومية عند المستهدفين في الطبقة المقصودة. ومع ذلك، فإن وضع مصطلح أو مسمى للطبقة ليس سهلا كما يتصوره البعض، بل جهدا جبارا يتم فيه بناء منظومة ثقافية كاملة حول الطبقة، ليصبح لها مفكروها وفنونها الخاصة، ومن خلال هذا يتم جذب الجماهير لها وتقديم تفسيرات جديدة للحياة ذات طقوس معينة تجعل الطبقة مختلفة تماما عن مجتمعها، ثم بعد رحلة طويلة يتم وضع تصورات قانونية للعلاقات الاجتماعية وكل هذا يظهر في مواقف عامة ومؤلفات وندوات وصحف مختصة ووسائل أعلام، وبمجرد النجاح في هذا يبدأ المجتمع المستهدف بالشعور بأنه منقسم على نفسه إلى طبقتين ليبدأ المجتمع المهيمن بالدفاع عن الذات ولو كان خاطئا فعلا، والتفاعل بالرد والمناظرات وتجاذب المثقفين والفنون له، وهكذا يصبح المجتمع منقسما فعليا وجوهريا ولم يبق سوى افتعال الأزمة.
تستطيع الشعور بهذا عندما يتم افتعال هجوم على فئة معينة ذات فكر معلن “هجوم مفتعل من الفئة نفسها” ثم يبدأ المتفاعلون بالرد على الهجوم وهكذا بتكرار، لإحداث الشعور بالطبقة وبث الاختلاف، وعدم المساواة، والمظلومية، تمهيدا لنشر فكر وثقافة مضادة لما يعيشه المجتمع قبل افتعال الأزمات، ولذا ترى نصوص الشريعة تمقت مثل هذا الفعل، وأي محاولات لتقسيم المجتمع وتحزيبه يجب أن يرفضها المجتمع تماما وألا يتفاعل معها بأي شكل، وهذا لا يعني الخلاف في الرأي والمدارس الفكرية، لكن لا يتم من خلال إيجاد تجاذبات في المجتمع، فمن يقرأ الخلاف الشهير بين أهل الحديث و المعتزلة في عهد المأمون، يدرك معنى الفرق بين الخلاف الفقهي وتقسيم وتحزيب المجتمع للفوز بالسلطة وسن التشريعات الجديدة.

د. محمد آل عباس – كاتب اقتصادي متخصص في المراجعة الداخلية

جريدة الاقتصادية – 16 مايو 2020

Share on facebook
Share on twitter
Share on linkedin
Share on whatsapp
Share on email

أحدث​ المقالات

الشلل الرقمي وتأثيره عالمياً

أصبحت التكنولوجيا الرقمية وما يرتبط بها من وسائل التواصل الاجتماعي والهواتف الذكية والمواقع الإلكترونية جزءاً هاماً من حياتنا اليومية ولا يمكن الاستغناء عنها، فجميعنا يتفقد

تفاصيل »

الذكاء الاصطناعي.. ثورة أم تهديد؟

يُعدُّ الذَّكاءُ الاصطناعيُّ، أداةً ثوريَّةً ستُحدِثُ تحوُّلًا هائلًا في كافَّةِ المجالاتِ، خاصَّةً الصناعةَ، فخلالِ السنواتِ القليلةِ المقبلةِ سيتغيَّرُ القطاعُ الصناعيُّ بشكلٍ جذريٍّ، وستحلُّ الربوتاتُ مكانَ

تفاصيل »