(رأس الحربة) في الأزمات

تُجْمِع العديد من الكتب والدراسات عن إدارة الأزمات بأن الإعلام هو رأس الحربة في مواجهة أي أزمة داخلية أو خارجية. ومن كان يرهف السمع من أسلافنا لـ«إذاعة صوت العرب» و«بي بي سي» وغيرهما حاول أن يدرك مصيره وسط معمعة الحروب وأزيز الطائرات التي تحلق على ارتفاعات منخفضة مؤذنة بقرب هلاكه. أما في عصرنا فلم نعد ننتظر تصريحاً من وزارات الإعلام لنقل بث حي لوقائع مصيبة من المصائب. وهذا بحد ذاته سلاح ذو حدين، فصار الشرطي والطبيب والعميل وصاحب النفوذ يمارسون أقصى درجات ضبط النفس عند أول أزمة أو مواجهة حادة تعترضهم، تحاشياً لتلك الكاميرا الصغيرة المندسة بين الجمهور. فكم من هاتف التقط ما عجزت عنه كبريات محطات التلفزة الإخبارية بقضها وقضيضها. وإن كانت «لقطات الجمهور» ليست إعلاماً مهنياً إلا أنها كسرت رهبة حمل المهني للكاميرا وسط الناس. فصارت تقف لنا الكاميرا بالمرصاد في كل الشوارع والأزقة.

ورغم ذلك ما زال هناك من يؤمن ببقايا مقولة رئيس وزراء بريطانيا ونستون تشرشل الذي قال إن «الحقيقة غالية جداً، ولذا يجب أن نحميها بجيوش من الأكاذيب». وهي ليست ببعيدة عن مقولة وزير الدعاية السياسية في عهد الزعيم النازي هتلر الذي كان يردد عبارته الشهيرة «اكذب ثم اكذب حتى يصدقك الناس!». غير أن المفارقة في عصرنا تكمن في أن الإعلام نفسه الذي نتدثر بعباءته في الأزمات قد يصبح أول كاشف لعوراتنا.
وصار الإعلام نفسه ينقل الصورة ونقيضها في زمن قياسي تماماً كما حدث مع رئيس الوزراء البريطاني بوريس جونسون الذي فجع أمته بخطته الأولية لمواجهة فيروس «كورونا المستجد»، حينما قال إنه سيسمح للفيروس بإصابة أكثر من 60 في المائة من السكان ليُكَوّن لديهم «مناعة القطيع» الجماعية، فثارت ثائرة كثيرين… فتراجع. وهو الإعلام نفسه الذي نقل لنا نبأ إصابة جونسون بالفيروس. وتلك العدسات هي ذاتها التي صورت لنا فرحة كل العاملين في مستشفى توماس وهم يصفقون بحرارة جماعية لرئيس وزرائهم، وهو يهم بالخروج من غرفة العناية الفائقة بعد أن تماثل للشفاء من فيروس العصر.
ولو كان هناك طابور خامس مندس ستكون مهمته صعبة في فبركة حالة بوريس جونسون أو غير ذلك من أزمات، خصوصاً حينما يجد إعلاماً يتحلى بأقصى درجات الشفافية والصدق وسرعة التفاعل الذكي والمدروس. والإعلام المهني يتجنب الكذب، لأنه يدرك بأن في الأزمات تتفاقم تداعيات الكذبة مهما كانت ناصعة البياض.
في عالمنا لم يعد أحد يستطيع أن يستمر في مسلسل الكذب. فقد تبين بالأدلة القاطعة بأن حبل الكذب أقصر مما كانت تصوره لنا الأمم السابقة. فما بيننا وبين الحقيقة مجرد ضغطة زر واحدة. وهذا خبر مفرح لمن لا يفعل سوى ما يمليه عليه ضميره وأخلاقه النبيلة، وهو خبر غير سار لمن يقمع ويظلم ويبدد خيرات الشعوب وأرواحها بحجة أن أحداً لن يكشفه. ولذا قال الفيلسوف نيتشه: «لست منزعجاً لأنك كذبت عليّ، لكنني منزعج لأنني لن أصدقك بعد هذه المرة».

د. محمد النغيمش – كاتب كويتي

جريدة الشرق الأوسط – 14 أبريل 2020

Share on facebook
Share on twitter
Share on linkedin
Share on whatsapp
Share on email

أحدث​ المقالات

الشلل الرقمي وتأثيره عالمياً

أصبحت التكنولوجيا الرقمية وما يرتبط بها من وسائل التواصل الاجتماعي والهواتف الذكية والمواقع الإلكترونية جزءاً هاماً من حياتنا اليومية ولا يمكن الاستغناء عنها، فجميعنا يتفقد

تفاصيل »

الذكاء الاصطناعي.. ثورة أم تهديد؟

يُعدُّ الذَّكاءُ الاصطناعيُّ، أداةً ثوريَّةً ستُحدِثُ تحوُّلًا هائلًا في كافَّةِ المجالاتِ، خاصَّةً الصناعةَ، فخلالِ السنواتِ القليلةِ المقبلةِ سيتغيَّرُ القطاعُ الصناعيُّ بشكلٍ جذريٍّ، وستحلُّ الربوتاتُ مكانَ

تفاصيل »