الاستعداد للأزمات الاقتصادية

أزمات اقتصادية عديدة سجلتها الأعوام المائة الأخيرة، بدءاً من كساد الثلاثينات الميلادية، وانتهاء بالأزمة المالية في العقد الأول من الألفية، مروراً بأزمات أخرى مثل أزمة (دوت كوم) في بداية الألفية، وأزمة الأسواق الآسيوية في نهاية التسعينات. وجميع هذه الأزمات ألقت بظلالها على الاقتصاد العالمي، وأعطت دروسها للدول المتضررة منها، مغيرةً بذلك الكثير من القوانين والتشريعات. ولعل آخر هذه التغييرات، ما أحدثته الأزمة المالية من تغييرات على أنظمة البنوك الأميركية، والتي بسببها أقر البنك الفيدرالي الأميركي اختباراً سنوياً سمّاه «اختبار الضغط». ويقوم هذا الاختبار بافتراض سيناريوهات تخيلية للاقتصاد الأميركي، ويختبر قدرة البنوك الأميركية على تحمل هذه الافتراضات في حال تعرض الاقتصاد الأميركي لنكسة مشابهة لما حدث في الأزمة المالية.
وبدأ البنك الفيدرالي الأميركي هذا الاختبار منذ عام 2010، وخلال هذه السنوات التسع، سجلت سنتان فقط نجاح جميع البنوك الأميركية الكبرى (وعددها 18 مصرفاً) في هذا الاختبار، وهما سنتا 2017 و2019، وهذا دليل صعوبة هذا الاختبار، الذي يفترض فيه البنك الفيدرالي هبوط سوق الأسهم لأكثر من 50% من قيمتها، وزيادة معدلات البطالة لأكثر من 10%، وانخفاض الناتج القومي الأميركي لأكثر من 9.9%، إضافةً إلى افتراضات أخرى مثل هبوط أسعار العقار والنفط. وكثيراً ما اشتكت البنوك من هذا الاختبار السنوي، الذي بدت لهم افتراضاته أشبه ما يكون بالكابوس البعيد عن المنطق. إلا أن الوضع الحالي والمتوقع مستقبلاً مع أزمة فيروس «كورونا المستجد» يجعل هذه الافتراضات أشبه بالحلم الوردي.
ففي يوم الخميس الماضي، سجلت الحكومة الأميركية أكثر من 3.3 مليون طلب للدخول في إعانة البطالة، وتوقع العديد من الاقتصاديين أن يصل هذا الرقم إلى 40 مليوناً بحلول منتصف الشهر القادم، إذا ما استمر الوضع على ما هو عليه. وتوقع بنك «غولدمان ساكس» أن تصل البطالة إلى 20% إذا لم تتدخل الحكومة الأميركية. وسجلت معدلات البطالة نسباً تاريخية خلال الأشهر الماضية، حيث انخفضت لتصل إلى 3.5%! إلا أن هذه الأيام انتهت وبشكل رسمي الآن. وتوقع البنك كذلك أن ينخفض الناتج القومي الأميركي للربع الثاني من هذا العام بنسبة 24% أكثر مرتين ونصف المرة مما توقعه سيناريو «الفيدرالي الأميركي». أما سوق الأسهم الأميركية ففقدت بالفعل أكثر من ربع قيمتها منذ بداية 2020، ووصلت لمرحلة لا تُصدق من التذبذب، لدرجة أن الأسبوع الماضي كان أفضل أسبوع له منذ 1938، بينما كان الأسبوع الذي يسبقه أحد أسوأ الأسابيع في تاريخ سوق الأسهم.
جميع هذه الأرقام تدلل على أن الاقتصاد الأميركي يواجه تحدياً حقيقياً مع أزمة «كورونا»، ولذلك فإن الحكومة الأميركية أعلنت عن حزمة من الدعم للاقتصاد الأميركي تبلغ تريليوني دولار، بينما صرح الاقتصادي جوزيف سونغ من {بنك أوف أميركا} بأن هذا الرقم يشكل الحد الأدنى لدعم الاقتصاد الأميركي، وأن الاقتصاد الأميركي قد يحتاج إلى 3 تريليونات دولار إن لم يكن أكثر. وبالنظر إلى التوقعات المخيفة، فإن الاقتصاد الأميركي الآن على المحكّ، ومع كون الولايات المتحدة في الوقت الحالي أكثر دول العالم تسجيلاً للإصابة بالفيروس، إضافةً إلى عدم وجود خطة حكومية واضحة لاحتواء الفيروس، فإن الولايات المتحدة مقبلة على نفق مظلم لا تعرف له نهاية.
إن الاختبار الذي فرضته الحكومة الأميركية على بنوكها الكبرى خلال العقد الماضي قد يأتي بثماره الآن، فالبنوك تستعد لأزمة مالية طارئة منذ 10 سنوات، وهي لا تبدو قلقة حتى الآن من الأيام القادمة. وهذه بلا شك إحدى منافع الأزمات المالية التي تدفع بالدول إلى تحسين أنظمتها الاقتصادية، والشواهد على هذه التحسينات كثيرة في شتى دول العالم. إلا أن الخطر هذه المرة ليس محدقاً بالمؤسسات المالية وحدها، فغالبية الشركات تتعرض لخطر الإفلاس في هذا الوقت، سواء على المدى القريب أو البعيد، والفارق الآن بين الشركات يكون في استعدادها السابق لتلقي الصدمات، سواء عن طريق مرونتها في تغيير استراتيجياتها، أو عن طريق احتياطياتها النقدية التي تؤهلها لتحمل الضغوط الاقتصادية القائمة الآن، والتي لا يُعرف مستقبلها الآن، في أزمة لم يسبق للعالم التعرض لها. والرهان الأكبر اليوم هو على الحكومات التي أقرت حتى الآن أكثر من 7 تريليونات دولار لإنقاذ الاقتصاد العالمي.

د. عبد الله الردادي – باحث سعودي متخصص في الإدارة المالية

جريدة الشرق الأوسط – 30 مارس 2020


Share on facebook
Share on twitter
Share on linkedin
Share on whatsapp
Share on email

أحدث​ المقالات

الشلل الرقمي وتأثيره عالمياً

أصبحت التكنولوجيا الرقمية وما يرتبط بها من وسائل التواصل الاجتماعي والهواتف الذكية والمواقع الإلكترونية جزءاً هاماً من حياتنا اليومية ولا يمكن الاستغناء عنها، فجميعنا يتفقد

تفاصيل »

الذكاء الاصطناعي.. ثورة أم تهديد؟

يُعدُّ الذَّكاءُ الاصطناعيُّ، أداةً ثوريَّةً ستُحدِثُ تحوُّلًا هائلًا في كافَّةِ المجالاتِ، خاصَّةً الصناعةَ، فخلالِ السنواتِ القليلةِ المقبلةِ سيتغيَّرُ القطاعُ الصناعيُّ بشكلٍ جذريٍّ، وستحلُّ الربوتاتُ مكانَ

تفاصيل »