النقد وإرادة التخطي

(النقد في ثقافتنا لا يعني إرادة التخطي، وإنما التلذذ بالجهر به)، هذه العبارة في تقديري من أجمل ما قاله المفكر عبدالله القصيمي عن النقد، قالها الرجل قبل ما يزيد على نصف قرن تقريبًا أو أكثر، ومع هذا لا تزال صالحة للاستعمال، إذ لم يتغيّر شيء، فالوضع على ما هو عليه، وما زلنا ننتقد على مختلف الأصعدة في السياسة، وفي الخدمات، وفي الثقافة والأدب، وحتى في الرياضة، وفي كل شؤون الحياة، وبذات الصيغة، فنادرًا ما يكون الهدف هو إرادة التخطي وتجاوز الخطأ أو الانحراف أو الشطط، وتصحيح المسار، بقدر ما يكون الهدف في الغالب هو النيل من الشخص، وتبخيس عمله، وإشاعة أخطائه على الملأ بقصد تشويهه والتقليل من شأنه، ربما لأننا نفشل في الفصل ما بين الفرد وما بين عمله وأدائه، أو ما يُنجزه، فنجعل منهما شيئًا واحدًا، يلزم بالتالي أن يتحمّل التقريع والملامة عمّا يصدر منه.

ننتقد مثلًا بعض القطاعات كوزارات الخدمة أو البلديات أو القطاعات الصحية أو أي قطاع خدمي، على اعتبار أننا نتناول أداء هذه القطاعات، لكن سرعان ما تتجسد شخصية المسؤول وزيرًا كان أو أمينًا أو رئيس بلدية، وتتحول إلى مادة كلية للنقد نصبّ عليها جام غضبنا، ونصوّرها كما لو كانت هي الخطأ، وهذا هو ما جعلنا ندور في حلقة مفرغة، وجعل معظم الأعمال تبدو مترددة وهشّة وغير قادرة على الصمود، ساعد في ذلك التنظيم الهرمي الإداري لمعظم القطاعات الخدمية ذات الرأس الواحد، وغياب مجالس الأمناء أو الإدارات، مما سهّل من رمي المسؤولية على شخص المسؤول الأول في القطاع، ووضعه شخصيًا على طاولة النقد، وتشريحه، ومن ثم تمليحه، وتقطيع جلده وتجفيفه باسم النقد، والذي كان يفترض أن يتجه للعمل ذاته بعيدًا عن شخص المسؤول حتى وإن كان صاحب قرار، وقد أدّتْ هذه الحالة الانتقادية الهوجاء إلى انكفاء بعض القطاعات عن أداء واجباتها كما ينبغي تجنبًا للانتقاد الذي يُعرّض بالأشخاص أكثر مما يُعرّض بالخطأ أو أوجه القصور، على اعتبار أن من لا يعمل لا يخطئ، واطرادا سيكون أقلّ عرضةً لتقطيع الجلد. وهذا النوع من النقد القاتل للمبادرات، والذي يترك الفعل، ويمسك بتلابيب الفاعل، أفرز فوق غياب المبادرات، ما يمكن تسميته بالأداء التقليدي الذي يدفع الكثيرين لانتهاج أداء من كان قبلهم تحاشيًا لسهام النقد الاعتدائي.

طبعًا.. لا يمكن الخروج من أزمة «الشخصنة» هذه، وتحرير الأعمال من قيود الخوف من النقد المتجاوز، ودفعها لأن تكون خلاقة، إلا بتطوير ثقافة النقد من نقد الأشخاص لمجرد النقد، أو حتى استخدام أخطائهم في أعمالهم للنيل منهم، إلى النقد بإرادة تخطي الخطأ، والوصول إلى الأفضل!.

فهد السلمان- رئيس اللجنة الوطنية للمخابز في مجلس الغرف

جريدة اليوم – الاربعاء 15 يناير 2020

Share on facebook
Share on twitter
Share on linkedin
Share on whatsapp
Share on email

أحدث​ المقالات

الشلل الرقمي وتأثيره عالمياً

أصبحت التكنولوجيا الرقمية وما يرتبط بها من وسائل التواصل الاجتماعي والهواتف الذكية والمواقع الإلكترونية جزءاً هاماً من حياتنا اليومية ولا يمكن الاستغناء عنها، فجميعنا يتفقد

تفاصيل »

الذكاء الاصطناعي.. ثورة أم تهديد؟

يُعدُّ الذَّكاءُ الاصطناعيُّ، أداةً ثوريَّةً ستُحدِثُ تحوُّلًا هائلًا في كافَّةِ المجالاتِ، خاصَّةً الصناعةَ، فخلالِ السنواتِ القليلةِ المقبلةِ سيتغيَّرُ القطاعُ الصناعيُّ بشكلٍ جذريٍّ، وستحلُّ الربوتاتُ مكانَ

تفاصيل »